مع الشاعر محمد الجباري في ديوانه الأخير

«الحديقة التي رسمت» وقلق الذات في تطويع المحيط

 

يتابع الشاعر محمد الجباري مغامرته الجميلة مع عوالم الخلق والإبداع، عبر استنطاق معالم الافتتان المخصوص بالمجازات وبالاستعارات وبنظم التميز في مسار تجربته الشعرية، وذلك على هامش صدور ديوانه الرابع المعنون ب»الحديقة التي رسمت» سنة 2022، وذلك في ما مجموعه 66 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. وإذا كنا لا ننوي في هذا المقام، الخوض في الجوانب التقنية المرتبطة بأدوات النقد الأدبي المعروفة، فإننا -في المقابل- نعتبر الاهتمام ببلورة «قراءة ثقافية» لمضامين الديوان الجديد، حلقة أساسية في مسار التوثيق لعطاء حقل تاريخ الذهنيات المؤطرة للمشهد الثقافي المحلي لدى نخب مدينة أصيلا في سياق أرحب يرصد إبدالات التاريخ الثقافي الوطني العام.
يشكل ديوان «الحديقة التي رسمت» تعزيزا لمسار مميز لطرق اشتغال الشاعر الجباري على تطوير بنية قصيدته، وفي سعيه نحو ترسيخ نهجه الفرداني في التعاطي مع منطوق «الاستعارات التي نحيا بها». لذلك لن يكون بمقدورنا فهم الخيط الناظم في تجربة الشاعر محمد الجباري بدون ربطها بالأفق العام الذي اختطته دواوينه السابقة، أي ديوان «جذور مائية» (1966)، وديوان «الرعشات» (2002)، وديوان «أصفى من مرآة» (2021).
ينهض متن محمد الجباري على لغة شفيفة، تحسن الإنصات لنبض إيقاعها الداخلي، بشكل يعطي للذات كل فرص التميز، بنحت الألفاظ، وبتوظيف الرموز، وباستحضار الذاكرة، وباستغلال التمثلات الفردية والجماعية التي راكمها المبدع محمد الجباري في سياق تعاطيه الممتد في الزمن مع لوعة القصيدة ومع فتنة المجاز ومع عمق الرؤيا. يبرز المنزع الفرداني كتوجه مركزي داخل نصوص هذا الديوان، ليعيد إفراز تأملات عميقة في إشكالات الوجود والكينونة، وفي تفاعل الذات مع محيطها من وجوه ومن أماكن ومن فضاءات ومن مجالات طبيعية تؤثث «الحديقة المشتهاة» للشاعر الجباري. هي «حديقة» لا تشبه سواها، بعد أن اختارت الانزواء بعيدا عن نهر القبيلة، قبيلة التنميط، بفرعيه التقليداني والحداثوي، قصد التحليق في سماوات مخصوصة، لا تستطيع التقاط تفاصيلها إلا عين المبدع الجباري. وعلى أساس عطاء هذه العين المستثمرة لخصوبة المحيط المخصوص داخل مكونات «حديقة» الشاعر الجباري، تنهض عوالم على عوالم، وتنبثق تأملات على تأملات، وتتبلور حميميات على حميميات. وبذلك يرتقي الشاعر إلى مستوى «الحلول»، بمعناه الصوفي الخالص، مع أصوات الطبيعة ومع جزئيات مكوناتها المادية والرمزية.
ونتيجة لذلك، أضحت ذات الشاعر تقرأ مرآتها في صوت الرياح، وفي انكسار الأمواج، وفي هدير البحر. بمعنى أن الشاعر استطاع الارتقاء بتأملاته الفلسفية في قضايا الخلق والوجود والمآل، إلى مستوى أنسنة الظواهر الطبيعية، وإضفاء عليها صفات البشر، عبر ربطها بقارات عواطف البشر، وبمتاهات أحاسيسهم، وبمغارات آلامهم، وبآفاق تطلعاتهم. ففي نص «جنوح»، يقول الشاعر:
«في صباحات المرفأ
بين الرصيف
وامتداد الزرقة
كنت
البحر والموج
المركب والربان
النورس وصفير الرياح
كنت الشاهد الوحيد
على جنوحك الأكبر
إلى خصال الحمام
تبعثر حدود الخرائط
تحفظ عن ظهر قلب
درس الفراشة
وتحمل في جيبك
شيفرة التحليق
بلا جناح» (ص ص. 19-20).

وفي تفاعل مثير بين ذات الشاعر المخلصة للإنصات لنبض التحول في المحيط وفي الفضاء، نقرأ في نص «لا وقت لي»:
«ما من شيء
حولي
قابل للقبض
الألوان تشبه نفسها
ولا الأصوات التي تعلو
أسمعها
حتى وجهي في المرآة
ليس وجهي
لا مكان لي
حيث المكان
ومن يسابق ظله
ترتبط في طريقه
الخطوات
يصير مثلي
أنا الذي
لا وقت لي
لألقاني» (ص ص. 25-26).
وفي حالة مثلى لتماهي الذات المنصتة لتفاصيل التحول ولتمثلات الشاعر لصور الطبيعة «الناطقة» بحمولاتها الوجدانية الكونية، يقول نص «ارتياب»:
«في الشك
منتهى اليقين
يا صيحة ترجف
في الخاطر
فكم مرة
كان على الموجة
أن تطلع من وهدة العباب
وتنكسر فوق الرمل
كي توقن
أنها ابنة البحر» (ص. 31).

وفي رؤية فلسفية عميقة، ينتقل الشاعر إلى صياغة نواميسه المتحكمة في «دروس» الحياة، عبر قصيدة «أعالي الحيرة»، حيث يقول:
«لا تلق بنفسك
من أعالي الحيرة
مرتين..
ليس لك
منذ الآن
سوى الإمعان
في الحياة
وتعقب الحلم
ولو
في فم الخوف» (ص. 34).
واستلهاما لطراوة محيط الفطرة الذي يحتضن الشاعر، يعيد المؤلف تجسير علاقته وتفاعله مع خصوبة هذه الفطرة في نص «عطر التراب»، حيث يقول:
«رائحة التراب
عطر
لا هو متاح
في مدن الإسمنت
ولا في أروقة المتاجر
عطر التراب
لذة
أثر لا يمحي» (ص. 62).
وعلى هذا المنوال، تنساب قصيدة محمد الجباري لتنتشي بأقصى درجات الافتتان بالمحيط المتناغم مع الذات المصرة على صناعة تميزها عن باقي أصوات القبيلة، على مستوى اللغة، وعلى مستوى الهندسة البصرية للنص، ثم على مستوى العمق الإنساني المرتبط بالمنزع النظري المؤسس للقيم الفردانية باعتبارها أداة للخلق وللتجديد، وقبل ذلك، لتفجير بؤر الجمال داخل متن القصيدة.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 26/08/2022