مع المؤرخ الطيب بياض في مشروعه الأكاديمي المجدد: أسئلة الشخصية المغربية أفقا للتفكير

بالكثير من عناصر الثبات، وبالكثير من جرعات العطاء، وبالكثير من كوابح الصبر والأناة، يتابع الأستاذ الطيب بياض مشروعه العلمي في التأسيس لإواليات الاشتغال على تلاوين الزمن الراهن. فبعد الأعمال التأملية المُستلهِمة لحصيلة التأمل الفاحص لأشكال تفاعل ذات المؤرخ مع تعاقب الصور والكليشيهات الطافحة في الأنماط السلوكية والذهنية المُشاهَدَة، انبرى الأستاذ بياض لوضع القواعد الإجرائية لتنزيل الاجتهادات النظرية ذات الصلة بالموضوع داخل مختبر البحث والتشريح، وفق العدة المنهجية التي راكمتها مدارس البحث التاريخي العالمي المعاصرة. وقد أثمر هذا المنحى، صدور عمل مرجعي حول علاقة الصحافة بالتاريخ سنة 2019، ثم نص سرديحول مشاهدات المؤلف/ المؤرخ لتفاصيل رحلة إلى الصين أعادت اكتشاف العوالم العجيبة لهذا «الكوكب» الفريد، الأمر الذي أينع عملا فريدا رأى النور سنة 2022 تحت عنوان «اكتشاف الصين- رحلة أكاديمي مغربي إلى أرض التنين». وعلى نفس المنوال التأملي الفاحص والمرتكز إلى ما سبق أن وَصفتُهُ ب»العين الثالثة» التي يمتاز بها المؤرخ عن سواه مما يُمكنه من التقاط التفاصيل التي لا تنتبه لها «العين العادية» للمتلقي العادي المنبهر بألوان الواقع المباشر وبالسياقات المعزولة وبالسرديات السهلة، يندرج صدور العمل الجديد للأستاذ الطيب بياض مطلع سنة 2024، تحت عنوان «الشخصية المغربية- تأصيل وتأويل»، وذلك في ما مجموعه 91 من الصفحات ذات الحجم المتوسط.
والكتاب، في الأصل، درس افتتاحي للسنة الجامعية الحالية، قدمه المؤلف بالمكتبة الجامعية محمد السقاط بمدينة الدار البيضاء يوم 9 يناير من سنة 2024. وهو بذلك، استلهام لتجربة «الدروس الافتتاحية» الجامعية كتقليد أكاديمي أصيل، ظل يشكل مناسبة علمية رفيعة لتقديم آخر الاجتهادات المتخصصة وإثارة الانتباه إلى قيمها وإلى خلاصاتها، استثمارا لعطاء الدرس الجامعي المرتبط بقضايا «الجديد» وأسئلته المهيكلة لوظيفة الجامعة، على الأقل بدول الشمال التي تراهن على نجاعة هذه الوظيفة في تحصين الدولة والمجتمع، وفي تعزيز مكانتهما بربط الجامعة بمحيطها وبانتظارات هذا المحيط. يقدم الأستاذ بياض، في عمله الجديد، قراءة تركيبية لمجال التطور «الطويل المدى» الذي أثمر هذه البقعة الفريدة من الأرض والتي تحمل اسم «المغرب»، بما ارتبط بها من خصوصيات ومن تأثيرات ومن امتداد حضاري ومجالي كان له الدور البارز في انبثاق الشخصية المغربية بسماتها وبخصائصها، من إنسان إيغود قبل 300000 سنة، إلى جلسات هيئة الإنصاف والمصالحة وما أفرزته من أسئلة مؤثثة لتفاصيل الذاكرة الجماعية للمغاربة. لقد استند المؤلف في نبشه التركيبي إلى عدة منهجية محترمة، أساسها المادة المصدرية المحلية بتشعباتها وبتلاوينها، وإلى الاجتهادات الأكاديمية الوطنية المؤسسة مثلما هو الحال مع أعمال الأستاذ عبد الله العروي وهو يتحدث عن «النفسانية المغربية»، أو مع أعمال الأستاذ إبراهيم بوطالب وهو يدقق في سياقات «المجتمع المتحرك»، أو مع المؤرخ جرمان عياش في نبشه في قضايا أصول «الشعور الوطني للمغاربة». وإلى جانب ذلك، ظل المؤرخ الطيب بياض حريصا على الانفتاح على أصوات الآخر من خلال التجديدات النظرية لرموز «الغرب الثقافي»، مثلما هو الحال مع أعمال المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل رائد مدرسة الحوليات في حديثه عن الزمن الطويل (ص.11)، أو مع المؤرخ الأمريكي فريدريك جاكسون تورنير في توظيفه لنظرية «التخوم» (ص.28)، أو مع الأنتروبولوجي الأمريكي رالف لينتون في «نظرية المحيط» (ص.29)، أو مع السوسيولوجي الفرنسي بيار بورديو في حديثه عن مفهوم «الهابيتوس» (ص.30). لقد أحسن الأستاذ بياض الإنصات لنبض البحث ولهاجس التركيب، اعتمادا على عدته العلمية التي صنعت نسقه التحليلي المستشرف لرحابة فعل التأصيل ولآفاق فعل التأويل. ولعل هذا ما انتبه له الأستاذ خالد الحياني في كلمته التقديمية، عندما قال: «لم يكن (أي الأستاذ بياض) مهووسا بالأحداث ولا متقوقعا على ذاته، بل كان يطرح موضوع الشخصية المغربية كملتقى طرق لحقول معرفية مختلفة، مع الحرص على أن يُعتمد المنهج التاريخي في باقي التخصصات للتأصيل للشخصية المغربية وتأويل نفسانياتها…» (ص.18).
انشغل الأستاذ بياض بالإجابة عن أسئلة مدخلية: ما معنى أن تكون مغربيا اليوم؟ وما هي دلالة وصف المغرب ب»الجزيرة»؟ وما هي حدود التقابل بين مفهوم الشخصية المغربية ومفهوم الهوية كما بلوره فرنان بروديل في كتابه «هوية فرنسا»؟ وكيف يعيش المغاربة اليوم تساكنهم مع موروثاتهم الحضارية ومع حصيلة التلاقح بين الثابت والمتغير داخل بنية الانتماء للمغرب؟ لم ينشغل الأستاذ بياض بالهوس الهوياتي المزمن، وظل يُصر منذ البداية على اعتراضه على يوتوبيات الأصل وعلى أساطير الانتماء الأول. لم ينخدع ببريق أحلام العرق الأصلي ولا لدغدغة لغته الاستعلائية، لكنه -في المقابل- اختار الركون إلى لغة المؤرخ، بنقده الصارم، وبألفاظه المباشرة، وبأسلوبه النسبي، وبصرامته المنهجية. يقول في هذا الإطار: «لن تسعى هذه الدراسة وراء سراب البحث عن الأصول، التي حذر فرانسوا سيميان «قبيلة المؤرخين»، من التيه في متاهاتها، ولن تنشغل بفكرة الأمة والبحث عن جذورها، ولن تقتفي أثر مماليك أو سلالات حاكمة. فهي أبعد ما تكون عن نزعات الوضعانيين وأدواتهم، غير معنية بالترافع علميا لفائدة طرح سياسي أو إيديولوجي ما…»(ص.32).
يعترف الأستاذ بياض بالتباسات عودة المؤرخ للبحث في جزئيات مسار تكون الهوية المحلية، لكنه ينتبه إلى أن الأمر كان ضرورة مجتمعية محكومة بنزعة مركزية تتعالى عن واقع التشظي، مثلما كان عليه الحال في النموذجين الألماني والإنجليزي عند نهاية القرن 18 ومطلع القرن 19. أما في الحالة المغربية، فالتمترس خلف»الهوس الهوياتي» يعكس إحساسا عميقا بالتردي الحضاري في مقابل الضعف عن مقارعة تيارات الإبداع الحضاري التي يُنتجها «الآخر» والتي تصنع قيم التقدم والتطور والحرية والكرامة. وعلى أساس ذلك، أضحى أمر التفكيك والتأويل، ضرورة علمية لبلورة فهم موضوعي لحقيقة واقع تشكل هذه «الأنا» المغربية على أساس معرفة تاريخية مستندة إلى قدر محترم من المصداقية يؤهلها لتقديم صورة تركيبية خضعت لمختلف عوامل الصقل على امتداد العهود والقرون الطويلة الماضية، قبل أن تُثمر هذا الذي نسميه -اليوم- بالشخص المغربي وبالشخصية المغربية وبالتراب المغربي. وبطبيعة الحال، ظل هاجس تنسيب الخلاصات محور عمل المؤرخ بياض من منطلقات علمية أصيلة تشكل مرجعا لكل الخلاصات والأفكار الهادفة إلى توليد الأسئلة المجددة، معرفيا وإبستيمولوجيا، باعتبارها تمرينا تأويليا مكتنفا بالكثير من مخاطر النزوات الذاتية والمنغلقات المعرفية التي هي – في نهاية المطاف – من صميم هوية البحث العلمي الأصيل.
وعلى هذا الأساس، اكتسب الأستاذ بياض عناصر الجرأة العلمية الضرورية لاختراق حقل ألغام مليء بالمطبات المرتبطة بالأزمات البنيوية المسترسلة للدولة المغربية، منذ مراحل النشأة والتكوين، ومرورا بمراحل الاستيعاب عند استقبال «الحضارات الطارئة»، وانتهاءً بمسار تكون نظيمة الدولة والمجتمع كما نعيش ثمار هذا المسار خلال زماننا الراهن. تقوم هذه الأزمات البنيوية المهيكلة لمسار تكون الدولة والمجتمع خلال مرحلة ما قبل الاستعمار على ستة عناصر موجهة، تتمثل في المشروعية السياسية الحاكمة بما ارتبط بها من مشاكل مزمنة مثل مشكل ولاية العهد وتداول الحكم أولا، وفي قضية العلاقة بين المركز والقبائل ثانيا، وفي إشكالية الضرائب والجبايات ثالثا، وفي وقع آثار الجفاف والكوارث الطبيعية والمجاعات رابعا، وفي مهام السلط الدينية ووظائفها سواء بالنسبة للسلطة المخزنية المركزية أم بالنسبة لسلطة التأطير المحلي المتمثل في مؤسسة الزوايا خامسا، ثم في طبيعة العلاقة مع «الآخر» الغازي الأوربي الكافر… سادسا.
لقد انتبه الأستاذ بياض إلى أدوار هذه العناصر الستة في تشكل خريطة توزيع السلط المادية والرمزية، فنحا نحو تفكيك أنساقها المجتمعية، للبحث في وقعها على حياة الفرد والجماعة، بشكل أهله لتجاوز منغلقات حقل الثنائيات الذي رسخته الإسطوغرافيا الكولونيالية عند حديثها عن «البنية المغربية المتنافرة» بتعبير السوسيولوجي الفرنسي ميشو بلير، داخل قوالب الثنائيات اللامتناهية مثل ثنائية العرب والبربر، وثنائية الشرع والعرف، وثنائية السهل والجبل، وثنائية بلاد المخزن وبلاد السيبة،… وفي المقابل، نجح الأستاذ بياض في بلورة ثنائية بديلة استوعبت حصيلة تأملاته وجهده التفكيكي والتركيبي، بنفس القدر الذي استوعبت فيه تهافت الثنائيات الكولونيالة. يتعلق الأمر بثنائية التقليد والتحديث، كانشغال مركزي يمكن أن يقدم الأجوبة الموجهة لأشكال التسلح لمواجهة الأسئلة المزمنة والمتجددة حول علاقة الأنا بالآخر وحول علاقة الكوني بالمحلي.
لم يكن غريبا أن ينحاز الأستاذ الطيب بياض نحو حسه النقدي لوضع الإطار العام للبحث في خبايا تكون الشخصية المغربية، من خلال مداخل علمية للتأويل أولا، ولإعادة ضبط المفاهيم المهيكلة للبحث مثل مفهوم المجال والحدود والأمة والقبيلة والزاوية والمخزن… ثانيا، ثم من خلال الجرأة على تجاوز سقف الطوق الاستعماري الرمزي الذي ظل يُحاصر المغاربة على الرغم من مرور أكثر من ستة عقود على الاستقلال. سمحت الجرأة العلمية للأستاذ بياض، وهو يستحضر دروس زلزال الحوز المدمر لسنة 2023، أن يعيد تقييم السؤال المثير للشعور الوطني الذي طرحه الآخر الغازي: «هل يستطيعون من دوننا؟»، بمعنى، هل تستطيع الذات المغربية التحليق خارج دوائر الاحتواء المجدد للأطروحات ما بعد الكولونيالية؟ أثبت الأستاذ الطيب بياض أن الذات المغربية سليمة، متجددة، تنبعث كلما تعرضت البلاد للمخاطر وللأزمات. هي ذات مبدعة، استوعبت روافدها، فأثمرت مسارا طويلا جعلها تحمي نفسها من مصير الهنود الحُمر، لتنبعث في كل دورة من دورات التاريخ، معلنة وفاءها لهذا الانتماء الحامل لاسم المغرب ترابيا، وهذا الإخلاص لتركيبة الشخصية المغربية حضاريا.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 31/05/2024