برهان غليون، مفكر سوري ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر وأستاذ علم الاجتماع السياسيّ في جامعة السوربون بباريس. اختير رئيسًا لأوّل مجلس وطنيّ سوريّ جمع أطياف المعارضة السوريّة بعد انطلاق الثورة السوريّة في مارس 2011.
له مؤلّفات عديدة بالعربيّة والفرنسيّة. حاصل على شهادة دكتوراه الدولة في العلوم الإنسانيّة وأخرى في علم الاجتماع السياسيّ من جامعة السوربون في باريس.
(2)
للأسف، لا تزال المراجعة الواسعة التي يشهدها الوسط السياسي المعارض، وفي أغلب الأحيان، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، تسير في الطريق الخطأ، لأنها بدل أن تركّز تفكيرها على البحث في القضية وملابساتها وتعقيداتها، والخيارات السياسية التي كان من المطلوب اتخاذها، ومعرفة صواب ما طبّق منها وخطئه، تكاد تقتصر في انتقاداتها على المحاسبة على النوايا والتشكيك فيها، والتركيز على الخصائص الشخصية للأفراد الذين تبوأوا مناصب أو مواقع قيادية هنا وهناك، وتصب جميعا في دائرة الانتقام وتغذية الصراعات والأحقاد المتبادلة. وقد نجمت عن هذا النهج نزعة قوية لتعميم الاتهامات، وضرب ثقة السوريين بعضهم ببعض وبأنفسهم، ولجلد الذات وسيلة للتحرّر من عقدة الذنب الذي يمثله الفشل في تحقيق الأهداف المنشودة، وفي النهاية التباري في التشكيك في أمانة الأفراد ونزاهتهم وإخلاصهم، كائنا من كانوا. وبدل أن تبرز الشروط الموضوعية للفشل وتناقش، وتنتقد الخيارات السياسية والاستراتيجية والتنظيمية لهذه القيادة أو تلك، أو لمن أتيح لهم تسلم قسط من المسؤولية والمناصب القيادية في المؤسسات السياسية أو العسكرية أو الإغاثية، تركز جهد النقاد على البحث عن مثالب “خصومهم” أو شركائهم الأخلاقية، واختلاق ما أمكن منها إذا احتاج الأمر، واستسهال الإدانة والإعدام السياسي للأشخاص الذين تحمّلوا المسؤولية، وتوجيه اللوم لهم وإلصاق التهم الجزافية بهم، باعتبار ذلك هو التفسير الرئيسي، بل الوحيد، للفشل الذي واجهته الثورة، والطريق الصحيح لتجاوزه. من هنا، نشأ خطاب التخوين، ليس لأشخاصٍ محدّدين وبالعلاقة مع أخطاء واضحة ومعروفة، وإنما للمعارضة ذاتها، بصرف النظر عن الأشخاص والتنظيمات، ومن ورائها للسياسة ذاتها التي وضعت في مواجهة الثورة بوصفها أصل الفساد الذي أصابها، بل تجاوز الأمر ذلك إلى التشكيك في وجود شعبٍ سوريٍّ بالمعنى البسيط، أو هوية سورية يمكن الاستناد إليها، لإعادة لملمة أشلاء الدولة والمجتمع الممزّق وإحيائهما.
لا يخلو الأمر بالتأكيد من ظهور إرهاصات تجسّد داخل صفوف الثورة والمعارضة تقدّم نداء الدولة على نزعة السلطة المليشياوية السائدة، وتنامي الشعور بضرورة اختيار قيادة مركزية قادرة على توحيد النخب السياسية وراءها، وإدماجها في حركة واحدة، في ما وراء انتماءاتها الأهلية الطائفية والطبقية والمناطقية والقومية. وقد عبر عن شيء من هذا التطور الالتفاف الواسع حول عبد الباسط الساروت، وتتويجه، بعد استشهاده، رمزا للثورة ولكفاح السوريين البطولي، وعزة أنفسهم وكرامتهم. وكذلك تنامي الوعي بضرورة التحرّك على الأرض، والانخراط في العمل السياسي الحقيقي الذي يستطيع وحده تغيير الوقائع والتصورات التي ارتبطت بالثورة، وإعادة تأهيل القضية السورية قضية حرية وتحرّر شعب، لا حربا أهلية طائفية، كما عبرت عنه حركة التضامن مع إضراب رئيس المجلس البلدي السابق لمدينة حلب، بريتا حاجي حسن عن الطعام، احتجاجا على الصمت العالمي على القتل المستمر للأطفال والمدنيين عموما في إدلب وتهجير سكانها.
ولكن لا تزال هذه الإشراقات للأسف ضعيفة ومحدودة، بالمقارنة بما يسود صفوف النخبة السياسية التي نشأت في حضن الثورة والمعارضة من تخبط وغرق في مستنقع انعدام الثقة المتزايد، والتشكيك بالنفس، وعملية التحطيم المتبادل للرموز والقوى والأفكار والقيم على حساب تقديم المثال الإيجابي، والإشادة بالتضحيات الكبرى، والتركيز على روح التسامح وتعميق التواصل والحوار بين الأفراد الذي لا يمكن من دونه إعادة توحيد القوى وتأسيس جماعة ذات إرادة واحدة، واعية لأهدافها وقادرة على تلمس طريقها، والانتظام في مشروع عملي لتجديد مسارها.