يرى المفكر السوري برهان غليون، رئيس المجلس الوطني السوري السابق، أن تغير أيديولوجية قيادة الثورة في سوريا لم يُغيّر من طبيعة الثورة والدوافع التي دفعت الشعب إلى الانتفاض على النظام وتقديم أعظم التضحيات.
وقال غليون إن التنظيمات الإسلامية مثل داعش صادرت الثورة وكفاح وتضحيات الشعب، وأصبحت من حلفاء نظام الأسد في قهر الشعب وإذلاله وشل إرادته.
p في ذكرى انطلاق الثورة السورية، يرى كثيرون أن الثورة انتهت وصارت سوريا مقسمة بين نظام ثار الناس عليه وبين إسلاميين من توجهات مختلفة يمارسون على الناس قمعاً يشبه قمع النظام. ما رأيك بهذه النظرة المتشائمة؟ وإلى أين تمضي الأمور برأيك؟
n لا تخضع سوريا اليوم لحكم الأسد أو أي حكم إسلامي من أي نوع كان. اليوم هي دولة محتلة ومعدومة السيادة، تتقاذفها أقدام المحتلين من كل البقاع. ولم يعد النظام سوى دمية صغيرة تتلاعب بها الدول وتستخدمها لابتزاز الشعب السوري والحصول على مصالح غير شرعية وغير مشروعة. وبالرغم من المظاهر الدينية الغالبة على قوى المعارضة المسلحة، لا يوجد في سوريا أي مشروع إسلامي طامح للحلول محل نظام الأسد أو قادر على تحقيق ذلك.
أما تنظيم الدولة الإسلامية داعش وجبهة النصرة فهما تنظيمان دوليان استغلا الفراغ الأمني والسياسي الذي خلفه تخلي النظام عن مسؤولياته الوطنية وتوجيهه قوات سوريا المسلحة وأجهزتها الأمنية ضد الثورة، ومن أجل تحطيم إرادة الشعب وشلها، لتعزيز مواقعهما في سوريا.
عمل التنظيمان كما هو واضح للجميع كحلفين موضوعيين للنظام في حربه المضادة للثورة. وهو يستخدمهما اليوم، وحلفاؤه الروس والإيرانيون أيضاً، لتبرير الاحتلال الأجنبي والتدخل الواسع النطاق للقوى الأجنبية، وكذلك من أجل إعادة الشرعية للنظام المتهم من قبل المنظمات الإنسانية جميعاً، وآخرها منظمة العفو الدولية المستقلة، بارتكاب أعمال إبادة جماعية وإعدام الألوف من السوريين الأبرياء في السجون التي أطلقت عليها هذه المنظمات اسم المسالخ البشرية.
وبالرغم من كل ما حدث، والمآسي غير المسبوقة التي عاشها الشعب السوري، لن يستطيع النظام أن يستعيد قوته ولا أن يستمر مهما كانت مواقف الدول الأجنبية والحالة الضعيفة التي تبدو عليها اليوم المعارضة.
ولن تقود سياسات النظام للتمسك بالسلطة وتأكيد سيطرته مهما كان الثمن، ولا أطماع حلفائه الذين تحتل قواتهم أجزاء من البلاد وتحتكر القرار السيادي السوري، إلا إلى تفاقم الأزمة، والمزيد من الخراب والدمار والقتل الجماعي وتهجير السكان، تماماً كما حصل ولا يزال يحصل منذ 6 سنوات متواصلة.
لن يستطيع أحد أن يربح من نشر الخراب والفوضى في سوريا، ولن تقوم للدولة فيها قائمة، ولن تستقر فيها مصالح، لا للقوى الداخلية ولا للقوى الخارجية، ولا لأي طبقة أو نخبة أو طائفة أو قومية، ما لم يتوقف اضطهاد الشعب السوري بأجمعه، أي من حيث هو شعب، ويتم الاعتراف من قبل جميع الأطراف الداخلية والدولية بحقوق هذا الشعب الأساسية وحقه الأول في تقرير مصيره بحرية.
ستستمر أيام قاسية إضافية على السوريين لكن لن يستطيع أي طرف أن يحقق أي مصلحة من مصالحه ما لم يستعد الشعب السوري استقراره ووحدته ويحقق تطلعاته المشروعة نحو الحرية والديمقراطية والسيادة الوطنية.
ما عدا ذلك هو مجرد أوهام عند البعض الحالمين بالنصر على السوريين، وثمرة مخاوف عند بعض السوريين الذين عاشوا الموت والعذاب في كل خلية من خلايا جسدهم. التاريخ لا تصنعه الأوهام ولا المخاوف وإنما الإرادات الحرة والأفكار النبيلة والنيرة.
p المفكر السوري برهان غليون يتحدث عن واقع الثورة السورية بعد 6 سنوات على انطلاقتها… هل انتهت الثورة؟
n في المشهد السوري الحالي، خفت صوت الأصوات الديمقراطية والمدنية. خفت ليس بمعنى أنها لم تعد موجودة بل بمعنى أن التشكيك في شعبيتها وفي تأثيرها على السوريين صار كبيراً. هل توافق على ذلك؟ كيف تقرأ المدني والديمقراطي في المشهد السوري حالياً؟
خسرت المعارضة السياسية ذات التطلعات العلمانية والديمقراطية دورها القيادي في الثورة منذ الأشهر الأولى، بسبب ضعف أحزابها وتهافتها، وهي أحزاب عهدي الأسد الأول والثاني التي وُضعت في قبصة الأحكام العرفية وقانون الطوارئ لنصف قرن كامل، مع حرمانها من أي نشاط، حتى الوجود خارج المسالخ البشرية، أي سجون تدمر وصيدنايا وغيرها، بجانب انقسام جمهورها ونخبها وضعف روح التعاون في ما بين قادتها وزعاماتها ونزاعاتهم الكثيرة وسوء تقديرهم لحقيقة الصراع العميقة وقساوة المعركة واعتقادها الطفولي بأن نزول الملايين إلى الشوارع قد حسم المعركة لصالح الشعب، ورهانها على حسن نوايا وإرادة المجتمع الدولي والالتزامات العالمية بوثائق الأمم المتحدة في حماية الشعوب والمدنيين.
وقد ظهر عجزها عن مواكبة ثورة الشعب وتضحياته اللامحدودة منذ الأيام الأولى للثورة عندما أمضت 6 أشهر في نقاشات طويلة لتوحيد نفسها قبل أن تخرج مقسمة من جديد بين هيئة تنسيق سمت نفسها وطنية، وإعلان دمشق هو أيضاً احتفظ بالاسم نفسه، بينما كانت دماء الشبان السوريين تسيل أنهاراً في شوارع المدن السورية.
ثم بعد أن عملنا المستحيل لانتشالها من سقطتها النهائية وإنقاذها من الموت بتشكيل المجلس الوطني السوري، الذي جمع كل أطرافها إلى جانب شباب الثورة، عادت إلى سلوكها ونزاعاتها التقليدية من جديد، ولكن من قلب المجلس هذه المرة، فعملت على تقويضه وفرغته من محتواه وحولته إلى ساحة لصراعاتها وأداة في يد كل منها لبسط نفوذها على الحراك الشعبي، بدل أن يكون الإطار الجامع للمعارضة بأكملها. وكانت هذه آخر فرصة لافتداء نفسها والخروج من محابسها التي أحاطت بها وشلتها خلال العقود الطويلة الماضية من عهد الديكتاتورية الدموية.
لكن تغيّر الأيديولوجية القائدة للثورة أو لقطاعات واسعة منها، وبشكل خاص للقطاعات المسلحة، لم تبدل من جوهر المطالب الشعبية، أي من مضمون الثورة الأصلي وغاياتها. فلا يزال المطلب الرئيسي والأول لجميع قطاعات الثورة السلمية والمسلحة، العلمانية والإسلامية، هو الانتقال السياسي من نظام القهر والاستبداد إلى نظام الحرية والديمقراطية والمساواة والمواطنة الواحدة.
وإذا كان هناك مغزى لمفاوضات جنيف، التي لم تفض، وعلى الأغلب لن تفضي، إلى نتيجة فهو في توافق جميع فصائل المعارضة، من كل الاتجاهات والتيارات، الإسلامية منها والعلمانية، على ضرورة هذا الانتقال، وقبولها بأن يكون مصير الدولة والبلاد رهن إرادة الشعب الواحد وحده.
باختصار إن تغير أيديولوجية القيادة لم يغير من طبيعة الثورة والدوافع التي حدت بالشعب إلى الانتفاض على النظام وتقديم أعظم التضحيات. لم يقم الشعب السوري بثورته المكلفة ولا قدم مئات آلاف الشهداء وملايين المشردين من أجل أن يستبدل ديكتاتورية شخص آخر إسلامي، أو يدعي التمسك بالعقيدة الإسلامية، بديكتاتورية الأسد، ولا من أجل أن يعطي رقبته لسيف جنود داعش أو النصرة أو من يشاركهم التفكير والقيم.
ثار الشعب وضحى من أجل الحرية، أي في سبيل نظام يحترم حقوقه وحرياته وكرامته، ويخضع لإرادته، كما هو الحال في كل الدول الديمقراطية، ولن يقبل بأن يصادر تضحياته أي مستبد آخر، بصرف النظر عن الاسم أو العقيدة أو المذهب الذي يريد أن يخفي خلفه هذا الاستبداد. وأول ما سوف يشهده الرأي العام العالمي عند انتهاء الحرب وبدء عهد السلام هو تفجر محتوى الثورة الديمقراطية هذا من جديد، في وجه فلول النظام البائد بالتأكيد.

