مع برهان غليون من أجل علمانية إنسانية 6/1

برهان غليون، مفكر سوري ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر وأستاذ علم الاجتماع السياسيّ في جامعة السوربون بباريس. اختير رئيسًا لأوّل مجلس وطنيّ سوريّ جمع أطياف المعارضة السوريّة بعد انطلاق الثورة السوريّة في مارس 2011.
له مؤلّفات عديدة بالعربيّة والفرنسيّة. حاصل على شهادة دكتوراه الدولة في العلوم الإنسانيّة وأخرى في علم الاجتماع السياسيّ من جامعة السوربون في باريس.

في مقال نشره في موقع “الأوان” بعنوان “العلمانية والعلمانية السورية” اشتكى وائل سواح مما يتعرض له مفهوم العلمانية في نظره من هجوم متزايد من قبل “معظم المثقفين” العرب. وميز فيهم بين فئتين رئيسيتين: فئة المفكرين الدينيين أو الإسلاميين الذين يرفضون العلمانية أصلا باعتبارها مخالفة لعقائدهم، وهم ممن يسهل الرد عليهم، ثم فريق من المثقفين، لم يحدد هويته، ينتقد في نظره العلمانية ويناصبها العداء سرا، “خجلا أو تقية أو مداورة”. ويحتاج إلى جهد أكبر للرد عليه، ومن بين من ضرب بهم المثال برهان غليون وأدونيس وماهر الشريف وياسين الحاج صالح.
وليس هناك شك في أن تناولنا لمسألة العلمانية، مثل أغلب الجمهور المثقف والسياسي العربي، كما يذكر وائل سواح في مقالته، يختلف كثيرا عن تناول وائل سواح وجماعته المرجعية في نقاط كثيرة وجوهرية. وهو ما سوف أتعرض له وأبين مضمونه وربما أسبابه أيضا في الجزء الثاني من هذا الرد. لكن أود قبل ذلك أن أتناول ما عرضه وائل سواح على أنه ملخص موقفي من مسألة العلمانية، والطريقة التي استخدمها لتحقيق غرضه، والاقتباسات التي استند إليها، والتي إذا صدقت صار من غير المنطقي تصنيفي ضمن ناصبي العداء للعلمانية مداورة وتقية وإنما صراحة وعلنا.
1 – في الأمانة الفكرية
أراد وائل سواح من مقاله أن يكون مساهمة في الدفاع عن العلم والعقلانية والحرية الفكرية. لكن أقل ما يقال في الطريقة التي اتبعها في هذا النقاش هو افتقارها لأدنى قواعد الأمانة الفكرية. وأول ما يلفت النظر في هذه الطريقة هو تعامله مع المصادر التي بنى عليها تعريفه بموقفي. فقد اختار كتاب: “المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات”، الذي صدر عن دار الطليعة عام 1978، والذي لم يعن بالعلمانية إلا بصورة جانبية، من خلال تحليل مسألة الطائفية والأقليات، وتجاهل كل النصوص التي كتبتها في الثلاثين سنة الماضية، من كتب ومقالات تتناول موضوع العلمانية مباشرة، وفي مقدمها كتاب “نقد السياسة: الدولة والدين” (المركز الثقافي العربي)، وكتاب “النظام السياسي في الإسلام” (دار الفكر) بالإضافة إلى نصوص كثيرة أخرى صدرت بالعربية والفرنسية، من المفروض أن كاتب النص قد اطلع عليها. وما يلفت النظر كذلك الطريقة التي أحال فيها إلى النص، أعني القصقصة واللصق لإنتاج لوحة جديدة ليس لها علاقة بالأصل. فلا تجد أي جملة كاملة ومفيدة من بين ما أحيل إليه، وإنما كلمات ليست منزوعة من سياقها التحليلي فحسب وإنما من جملها المفيدة أيضا. وما يلفت النظر كذلك أنه لا توجد هناك إحالة واضحة إلى أي جملة أو فقرة، وإنما إحالة جماعية إلى صفحات عديدة ومتباعدة دفعة واحدة، وعلى القاريء نفسه أن يجمع بين شتاتها. وما يلفت النظر أخيرا هو أن الكاتب لم يقرأ، كما هو واضح من الإحالات، كتابي وإنما وضع ثقته كاملة في ما قام به قبله جورج طرابيشي في كتبه، كما تشير الإحالة، وهو المعلم الحقيقي في هذا الفن. وبهذه الوسائل أمكن لوائل سواح أن يعيد إنتاج موقفي من مسألة العلمانية كما يريد هو، وبالشكل الذي يستجيب لحاجته في إدانة المثقفين العرب أو معظمهم، بوصفهم عملاء للظلامية الدينية والجهالة، وفي تنصيب نفسه وأصحابه ملوكا متوجين على عروش العلم والعقل والتنوير.
وما ذكرته بخصوص عرض موقفي لا يختلف كثيرا عما رافق عرض مواقف الكتاب الآخرين المشار إليهم. فلم يجد الناقد من كل ما كتبه أدونيس مثلا حول مواقفه من الدين والعلمانية، والتي يعرفها القاصي والداني، المثقف وغير المثقف، ولا تحتاج إلى بحث وتدقيق، نصا أفضل لتمثيل فكر هذا الشاعر والمثقف الكبير سوى نص ظرفي واستثنائي يعود لسنة 1979، كتبه في لحظة حماسية بعد انتصار الثورة الإيرانية الإسلامية، التي كانت بكل المعاني ثورة تحررية، وأثارت في حينها، بالرغم من الطابع الملتبس لإيديولوجيتها الدينية، حماسا لا شك فيه عند مفكرين كبار، في مقدمهم ميشيل فوكو الذي وصفها بثورة الروح. وهي لا تزال تستحق وقفة تأملية حتى اليوم بسبب ما تنطوي عليه من مفارقة تاريخية جعلت أن ثورة ديمقراطية شعبية تحديثية تتخذ طابع الثورة الدينية وتستند إلى قيادتها السياسية. مما يعبر في الوقت نفسه عن أصالتها وتناقضاتها غير العادية أيضا، ككل حدث تاريخي كبير.
ولا يختلف الأمر عن ذلك في تناوله مواقف ياسين الحاج صالح وماهر الشريف. فهو ينطلق أيضا من تأويل لواحد من نصوصهما العديدة، يطرحان فيه تساؤلات ليست مشروعة فحسب، وإنما هي شرط لضمان اتساق الخطاب والتدقيق في صوغ الإشكالية، ليصوغ لكل منهما موقفا معاديا من العلمانية.
والواقع أن وائل سواح لا يقتصر على عرض ما يعتبر أنه موقفنا من العلمانية، ولكنه يتجاوز ذلك ليعيد بناء منظومتنا الفكرية وخياراتنا السياسية جميعا. فهو يكشف عن أفكارنا المسبقة التي تملي علينا طريقة تفكيرنا، ويعرف نوايانا الحقيقية أكثر مما نعرفها نحن، ويسعى إلى إرشادنا وإسداء النصيحة لنا، من دون الاستناد إلى أي نص أو إحالة هذه المرة، ربما من باب المونة الأخوية. يقول مثلا إن ”النتيجة التي يصل إليها – غليون (…) مبنية على فكرة مسبقة ثابتة، مؤداها أن السلطة ذات الطابع الطائفي في سورية، والتي تمثل أقلية طائفية بعينها، تستخدم العلمانية كسلاح ضد الأكثرية العددية التي تنتمي لطائفة أخرى. وهي تستخدم العلمانية كـ”أداة قمع اجتماعي وسياسي” بيد هذه الفئة النخبوية ضد الغالبية الشعبية و”إيديولوجيا تبرير” لضرب حرية الاعتقاد الأساسية، “حرية الرأي والصحافة والتنظيم الحزبي”، و”وسيلة للتغطية على انعدام هذه الحرية في الواقع والممارسة” وعلى “الاحتكار المطلق لحرية الرأي والتعبير والتنظيم” من قبل “دولة النخبة العصرية”. ويتابع وائل سواح: ”برأينا أن في هذه الرؤية نقيصتين اثنتين: أولاهما الاستقواء بالأكثرية العددية في مواجهة الأقليات عموما، وثانيهما النفس الاستعلائي الذي تمارسه في مواجهة من تسميهم بالأقلية الحداثوية”.
ولا أدري على أي مصدر اعتمد سواح ليصل إلى هذه النتيجة التي تعبر عن فكر بدائي لا علاقة له من قريب أو بعيد بالتحليل الاجتماعي الذي اتبعته في الكتاب، بل هو نقيضه بالضبط. ولعلها تعكس قناعاته الذاتية. فأطروحة الكتاب الرئيسية هي أن مشكلة التوترات الطائفية والنزاع مع الأقليات ليست مرتبطة بالدين ولا بالاختلاف المذهبي ولا بالأحرى بوجود أقليات، وإنما بضعف البنية الوطنية وعجز الدولة عن تقديم إطار وطني وديمقراطي صحيح يضمن المساواة بين الأفراد ويقدم لهم فرصا أكبر لتحقيق مطامحهم وتطلعاتهم. فالأقليات تبنى ولا توجد مسبقا كأقليات، بل جماعات اعتقاد ورأي مختلفة. ويشكل الكتاب استكمالا لكتاب “بيان من أجل الديمقراطية” الذي صدر عام 1977، وهو يدخل في محاور التفكير التي سأعمل على تطويرها في أبحاث لاحقة حول الطائفية والدولة والأمة والعلمانية.


بتاريخ : 09/06/2020