مع حضور في الطقوس والأمثال .. الخبز في حياة المغاربة: من قوت يومي إلى مقام وجودي ورمز أسطوري وسلم اجتماعي

لا يحضر الخبز في وجدان المغاربة مجرد قوت يومي يطفئ الجوع، بل يتجاوز ذلك ليحمل رمزية عميقة ارتبطت عبر القرون بالمطر والخصب، وبالعلاقة الروحية التي نسجها الإنسان المغربي مع رغيفه اليومي، فهو يختزل حياة كاملة بين البساطة والعمق، بين المائدة واللغة، بين الدعاء والاحتجاج، وبين التراث والحداثة، وبين الأدب والمجتمع، حتى غدا «طرف الخبز» مرآة تعكس صورة المجتمع في تحولات واقعه وتعبيرات وجدانه وأمثاله وحكاياته وثقافاته، ورغم اختلاف شكله ولونه ومذاقه من مكان إلى آخر، أو حتى داخل المكان الواحد، يظل الخبز موحد الدلالة، جامعا بين الذاكرة والتاريخ والتقاليد الاجتماعية
والسلم الاجتماعي.

 

في اللغة والمخيال والسلوك اليومي

الخبز في المغرب ليس مجرد غذاء يسد الجوع، بل هو مرآة تعكس علاقة المجتمع المغربي بالحياة والسلوك، وتكشف كيف تحولت لقمة العيش البسيطة إلى رمزٍ لغوي وثقافي وسياسي واجتماعي ممتد عبر قرون، يكفي أن نتأمل كيف يعيش المغاربة يومهم حتى ندرك أن «الخبزة» تفرض حضورها في اللغة وفي المخيال وفي السلوك اليومي، فمنذ الصباح الباكر، يخرج المغربي إلى عمله ويُقال عنه: «مْشَا يْصَوَّر طرف ديَال الخبز»، أي أنه يمضي في رحلة البحث عن لقمة العيش، وإذا كان ماكرا ومناورا، ينعت بالقول: «هذاك بْخبيزتو»، أما إذا كان طيب القلب حسن النية يقال عنه: «خبز ربي فطبگو»، وكل شخص يرونه ودود بوالديه، يُطلقون عليه: «خبزة كاملة».
أما المحتج الغاضب الذي يرفع صوته، فيحلو للكثيرين الإشارة إليه ب: «شبع خبز»، وحين يراد مدح فتاة وذكر نقائها، يخرج التعبير الشعبي قائلا: «خبزة مْغَمضة ما شافوها عِينين ما عجْنوها يْدِّين»، هذه العلاقة الحميمة بالخبز تترجمها طقوس الاحترام اليومية، حيث لا يُلقى الخبز مع القمامة، بل يُفرد له كيس خاص، وإذا وجد المغربي قطعة خبز في الطريق، فإنه يقبلها ويضعها جانبا بخشوع، خشية أن تتحول النعمة إلى لعنة، ولأن اللغة مرآة المجتمع، صارت الاستعارات الشعبية محملة بالخبز، فإذا كان شخص ما مشكوكا فيه قيل عنه: «فكرشو العجينة»، وإذا خان الناس وغدر بهم ثم وقع في ورطة قالوا: «الخبز كيوقف فالركابي».
وكما يُختصر العناء اليومي في جملة واحدة، تخرج العبارة الشعبية الصريحة: «الخبز صعيب»، فحتى المتسولون استلهموا من الخبز وسيلة لإثارة تعاطف المارة، فيقولون: «خبيزة لله» أو «ثمن خبيزة الله يرحم الوالدين»، ما يدل على أن الخبز ليس مجرد مادة، بل قيمة رمزية تختزل الحاجة والعوز، وفي الأمثال الشعبية يقال: «بيننا خبز وملح»، وهو تعبير عميق الدلالة على الثقة والعشرة والوفاء، وتلخيص تجربة الناس مع تقلب الأحوال والمواقف أو غدر الأصدقاء أو الجيران أو الأزواج أو الشركاء، والمثير أن هذا المثل يقتصر على مفردتي «الخبز والملح» تحديدا، حتى لو جمعت بين الأطراف أطعمة أخرى أو نِعم متعددة.

الطقوس والرموز والمعتقدات الشعبية

وكم يحضر الخبز في الأدعية الشعبية مثل: «بغيت لك خبزة سمينة ومستورة»، فيما يجد مكانة راسخة في الزجل الصوفي الشعبي، كما في ديوان سيدي عبد الرحمن المجدوب الذي قال: «الخبز هو الإفادة، إلى مَكايْن الخبز ما يْكون لا دين، لا عبادة»، وهي أبيات تؤكد أن الخبز شرطٌ للاطمئنان الروحي والأمن الوجودي والاستقرار النفسي، ويمكن ربط ذلك بالعبارة المتداولة شعبيا: «اضربني يا خبزي»، في إشارة رمزية إلى أن ما يُفترض أن يكون مصدر خير واعتراف ومعونة، يتحول أحيانا إلى سبب للأذى والنكران والخذلان، وفي الثقافة الأمازيغية يجري تلقيب الرجل الكريم المضياف بـ «بووغروم»، أي سيد الخبز.
ولا تنفصل العلاقة مع الخبز عن المعتقدات الشعبية التي توارثها المغاربة جيلا بعد جيل، حيث ارتبط الخبز والمطر بممارسات طقوسية وأناشيد ما تزال حاضرة في الذاكرة الجماعية، من ذلك الأنشودة الشعبية التي يرددها الأطفال في مواسم الاستسقاء: «الشتا تاتاتا… أوليدات الحرّاثة.. آلمعلم بوزكري… طيب لي خبزي بكري… باش نعشي وليداتي… وليداتي عند القاضي… والقاضي ما جاب خبار»، وهي ترنيمة تلخص علاقة المواطن البسيط بمطر السماء وبالرغيف كشرط أساسي لاستمرار الحياة، فيما الحكايات الشعبية بدورها حملت الخبز أبعادا تربوية وخرافية، إذ رُويت قصص عن شخصيات عبثت أو تقاذفت بالخبز فعوقبت بالمسخ إلى حجارة أو قرود.
كما يبرز في هذا السياق طقس «تاغنجا»، الذي يشكل إحدى أبرز الممارسات الجماعية في طلب الغيث، ويقوم على خروج فتيات أو نساء وأطفال في مسيرات عبر الدروب والأزقة، حاملين مغرفة خشبية مزينة بأثواب على شكل دمية رمزية ترمز للسقي، وهم يرددون أهازيج تستدر السماء مثل: «تاغنجا تاغنجا… يا ربي اعطينا الشتا» و»السبولة عطشانة… أرويها يا مولانا»، هذه الطقوس، بما تحمله من رموز ودلالات، تعكس كيف استطاع المجتمع المغربي عبر تاريخه الطويل أن يربط بين الخبز والماء والمطر في وجدان واحد، حيث يشكل الرغيف ليس فقط غذاء للجسد، بل ذاكرة روحية وثقافية عابرة للأجيال.

تاريخ المجاعات وضحايا العيش

وتظل ذكرى «عام الجوع» أو ما يُعرف أيضا بـ «عام البون» أو «عام بوهيوف»، ماثلة في الذاكرة الجماعية، حيث عاش المغرب في النصف الأول من القرن العشرين موجة قاسية من الجفاف أدت إلى مجاعة امتدت لسنوات، هذه التجربة المأساوية التي هزت المجتمع رسخت في الوجدان الشعبي قدسية الخبز باعتباره أعظم النعم الإلهية، التي لا يجوز التفريط فيها أو الاستهانة بمكانتها، ومنذ ذلك الحين، لم ينقطع المغاربة عن استحضار طقوس مرتبطة بالخوف من الجوع، بدءً من الدعاء وصلاة الاستسقاء، وصولا إلى أشكال الاحترام التي ما زالوا يحيطون بها الخبز، بوصفه رمزا للحياة وذاكرة مقاومة لأزمنة القحط والمجاعة.
كما أن الخبز في المغرب ليس حكرا على المائدة أو الحكاية، بل تحول إلى شعار سياسي ورمز احتجاجي، والذاكرة تحتفظ بما شهدته البلاد، خلال ثمانينيات القرن الماضي، من انتفاضات ضد غلاء المعيشة، وُصفت في عهد الوزير إدريس البصري بـ «انتفاضة الكوميرة»، وأُطلق على المعتقلين «معتقلي الخبز»، فيما سمي قتلى هذه الانتفاضات ب «شهداء الكوميرة»، في محاولة للتقليل من الأسباب الحقيقية وراء الغضب الشعبي، ويمكن هنا استحضار العبارة المنسوبة إلى المارشال ليوطي، أول مقيم عام فرنسي بالمغرب: «كي تحكم المغرب يجب على السماء أن تمطر»، في دلالة على أن الخبز ظل دائما مرادفًا للحياة والكرامة.

الحضور في الأدب والرواية والصحافة

وحين ننتقل إلى الأدب الحديث، نجد الخبز حاضرا بقوة في الأدب المغربي، ومنه رواية محمد شكري الشهيرة «الخبز الحافي»، التي جعلت من الخبز رمزا للصراع اليومي من أجل الكرامة والقوت، كما أحب كثير من المغاربة ورددوا مع محمود درويش قصيدته الشهيرة التي غناها مارسيل خليفة: «أحن إلى خبز أمي»، بما تحمله من حنين وارتباط بالذاكرة الأولى، كما أقبل القراء المغاربة بشغف على أعمال روائية عالمية مثل رواية زافييه دومونتبان «بائعة الخبز»، ورواية سماح الجلوي «الخبز الأسود»، ومروان كجك «رائحة الخبز»، ومحمد البادر في روايته «الخبز الأحمر»، ثم هاينرش بول في عمله الشهير «خبز السنوات الأولى»، إلى جانب روايات عالمية.
حتى الصحافة الدولية توقفت عند هذا الشغف المغربي بالخبز. ففي عام 2024، نشرت صحيفة «الباييس» الإسبانية تقريرا عن استهلاك المغاربة لهذه المادة الحيوية، وجاء فيه أن المملكة تستهلك فيها يوميا 105 ملايين خبزة، بمعدل ثلاث وحدات للفرد، وهو رقم يضع المغرب بين أكثر شعوب العالم استهلاكا للخبز الذي هو في المخيال المغربي ليس مجرد غذاء يومي، بل هو هوية وموروث ولغة، ورغم صعوبة تحديد التاريخ الدقيق لظهور الخبز ضمن العادات الغذائية المغربية، إلا أن المؤرخين يجمعون على أن الأمر كان نتاج تلاقح حضارات متعددة عرفتها المنطقة منذ أزمنة ما قبل التاريخ.


الكاتب : أحمد بيضي

  

بتاريخ : 10/09/2025