مع محكيات زهير الخراز

متعة السرد ودهشة الاستذكار في مجموعة «حوت الحجر»

 

بالكثير من عناصر الثبات، وبالكثير من عناصر الإنصات لنبض الواقع المتغير، وبالكثير من أدوات توظيف مقومات الكتابة السردية الاسترجاعية، وبالكثير من جهود نحت أدوات صنعة الكتابة السردية التخييلية،… بكل ذلك، استطاع المبدع زهير الخراز تحقيق تراكم مثير جعله ينجح في التأصيل لعناصر فردانياته الجمالية في الكتابة القصصية المشتغلة على تفاصيل الذاكرة الجماعية لمدينة أصيلا. لم يركن زهير الخراز لأحلام تمارين البدايات، ولا ليوطوبيات النشر والإعلام، ولا لنزوعات الاستنساخ المنبهر بعطاء «الغير»، وفي المقابل، اختار الطريق الصعب لكن المنتج، الطويل لكن الفعال، الشاق لكن الخصب. فكانت النتيجة، صدور سلسلة من الأعمال المؤسسة لنسق الكتابة الإبداعية الخاصة بصاحبها، بعيدا عن الكليشيهات الاستنساخية وعن النزوعات المطمئنة ليقينياتها، وقريبا من ذات زهير الخراز الإنسان والمبدع المهووس بالتقاط تفاصيل الحياة اليومية بوسطه الحميمي داخل فضاءات مدينة أصيلا، وعبر وجوه أناسها البسطاء، ومن خلال عمق مسلكيات الناس وأنماطهم المعيشية وأنساقهم الرمزية. وقد أثمر هذا المنحى تعبيرات إبداعية عميقة تجلت في سلسلة أعمال رأت النور، وعلى رأسها مجموعة «العصا» (2003) ومجموعة «وصمة زعفران» (2012) ومسرحية «همس الدمى» (2018)، ثم أنتجت –أساسا- المجموعة القصصية الصادرة مطلع سنة 2021 تحت عنوان «حوت الحجر»، في ما مجموعه 148 من الصفحات ذات الحجم المتوسط.
لقد استطاع المبدع زهير الخراز تقديم نصوص سردية ممتعة ومدهشة، بقدرتها الخارقة على استنطاق مكنونات الذاكرة الجماعية كما عاشها صاحبها وكما ظل يستقرئ طراوتها في وجوه الناس، وفي سياقات التحول المجتمعي وفي جزئيات عناصر خصوبة المكان، مكان أصيلا التاريخي وموقع البحر المركزي داخل زوايا هذا المكان. سيتحول البحر لدى زهير الخراز إلى ملاذ لامتناه لإنتاج محكيات على محكيات، ونصوص على نصوص، وتمثلات على تمثلات. والحقيقة، إن هذا المنحى يظل سمة مميزة للكثير من الأعمال الإبداعية التي أنتجها أبناء مدينة أصيلا في سياق اشتغالهم على تفكيك عوالم بحر أصيلا وفضاءاته العجائبية، مثلما هو الحال –على سبيل المثل لا الحصر- مع رواية «المدخل السري لكهف الحمام» لأحمد عبد السلام البقالي، أو مع ديوان «باب البحر» للمهدي أخريف، أو مع ديوان «الطفل البحري» لإدريس علوش، أو مع المجموعة القصصية «ماذا تحكي أيها البحر..؟» لفاطمة الزهراء المرابط، أو مع ديوان «الليل الأبيض» لمحمد البوعناني…
لقد أصبح البحر بمارس غوايته المطلقة على مبدعي أصيلا، ولم يشكل زهير الخراز استثناءً في هذا السياق، بعد أن سعى إلى استيعاب نبض إيقاع هدير أمواجه وإدراج هذا النبض داخل نظيمة إنتاج النصوص الإبداعية المنصتة –بعمق- لأوجه تشابك العلاقات المتداخلة للإنسان بعوالم البحر. ولعل هذا ما اختزلته بدقة الكلمة التقديمية للناقد العراقي رحمن خضير عباس عندما قالت: «في مجموعته القصصية (حوت البحر)، يهيمن البحر بشكل مطلق، من خلال حضوره الدائم على أجواء السرد. هذا البحر المتقلب في عنفه أو رأفته، في عطائه أو شحه، في صخب أمواجه وقوة عواصفه تارة، وفي بهاء هدوئه ورقته تارة أخرى. حيث يغمر البحارة والصيادين بالعطاء، ويمنحهم طعم الحياة، أو يطبق عليهم مخالبه، فيسلبهم جذوة الحياة. نطل على البحر وأمواجه وصخوره وأسراره والبشر المعلقين على صلبان أمواجه. من خلال هذه المجموعة للقاص المغربي زهير الخراز، الذي استطاع أن يترجم في قصصه العلاقات الشائكة بين الإنسان والبحر، وفحوى صراع الإنسان من أجل البقاء القلق، بين موج هائل ورمال موحشة…» (ص. 11).
وداخل متاهات عوالم البحر، تنهض فضاءات أصيلا لتمارس سلطتها المطلقة على سقف فعل التخييل لدى المبدع زهير الخراز، ولتتحول المدينة ووجوه أناسها ومحكياتها السردية إلى نقطة الانطلاق وإلى مآل المنتهى. في هذا الإطار، يقول الناقد محمد كويندي في كلمته التقديمية: «نصوص مشحونة بما هو حميمي من العلاقات: الحومة، شاطئ البحر، الحمام الشعبي، المقاهي، المعابد، المقابر، المآثر، ساحات هذه المدينة الصغيرة، الشاطئية، (أصيلة) ككينونة ومناخ وأبطال ولغة وفعل وفاعل وحال. قصص هذه المجموعة تشبه موجات من الألم اللاسعة، نجد كاتبها يستقصي ويحلل الشائعات والمعلومات وبعض الوقائع، والخرافات، والأساطير، وأحلام اليقظة، والخيانة الزوجية، والمستحيل المتولد من الأكاذيب المتبادلة بين الشخوص… هذه مادته الحكائية التي يصبها الكاتب بفنية عالية في قالب قصصي حداثي…» (ص. 6).
تحضر مدينة أصيلا لتوجه منعرجات الحكي، تحضر مدينة أصيلا كهوية ثقافية وكانتماء حضاري وكأبعاد جغرافية بحمولات رمزية تاريخية، لترسم آفاق فعل التخييل، مضفية عليه نكهة الانتماء ودهشة الانزياح لسلطة المكان. في هذا الإطار، يمكن الاستدلال بكثافة توظيف السارد لجزئيات المكان قبل تحويله إلى بؤرة لتفجير ملكة التخييل والخلق الجمالي للاستعارات ولأدوات صنعة الكتابة. ويمكن أن نستدل بهذا الخصوص، بمعالم مميزة من مدينة أصيلا طغت على متن الحكي وطبعته بميسمها الرمزي العميق، مثلما هو الحال مع فضاء شاطئ الرميلات في نص «عريس البحر» (ص. 22)، أو مع فضاء مقهى «ازريرق» في نص «الزائر المدهش» (ص. 33)، أو مع عوالم «المضربة» في نفس النص (ص. 35)، أو مع أسرار «كهف الحمام» في نص «لصوص مجنحون» (ص. 54)، أو مع رهبة برج «القريقية» في نص «ماما نويل» (ص. 70)، أو مع معلمة جامع الزكوري في نص «رجال البكار» (ص. 109)،…
وإلى جانب حضور سطوة المكان وفتنته العجائبية، استطاع المؤلف توظيف كثافة استثنائية في استلهام أسماء شخصيات «الهامش» وتحويلها إلى شخوص ساردة وفاعلة في متاهات الحكي، وهي شخوص تمتح تميزها من فضاء أصيلا دائما، في تناغم فريد مع نزوات الكاتب، وكأني به يبحث عن استقراء حميميات ذاته من خلال «التنازل» عن وظيفة السرد لفائدة هذه الشخصيات المنبعثة من رماد الذاكرة، مثلما هو الحال مع شخصية «عليلو» في نص «عريس البحر»، أو مع شخصية «عزيوز» في نص «الظل الأعوج»، أو مع شخصية كل من كارسيا وبرناردو في نص Fruta del Mar. وبتكامل مع هذا المنحى، أبدى المؤلف حرصا واضحا على تكثيف استثمار المحكيات المحلية لتنهض عليها بنية النص ومنطلقاته، وأستشهد في هذا الباب بأشكال توظيف حكاية حاكوزة في نص «ماما نويل» (ص. 69)، ثم بأشكال استحضار صورة «الوالد» في نص «الزائر المدهش»، مما فتح الباب أمام استدعاء ذكريات الصبا وذكريات البحر كحضن حميمي وكمجال للتعايش الجماعي وكذاكرة للإبداع الجمالي وللاستلهام الإنساني. لقد نجح زهير الخراز في تقديم سير عوالمه المخصوصة، حيث يتداخل الحلم باليقظة داخل أسرار البحر ومجاهله ومآسيه، وحيث تقدم فضاءات أصيلا ووجوه أناسها وصفة الإكسير الملهم في وجه دوائر السقوط المزمن والانكسار المتجدد.
وعلى المستوى التقني المرتبط بصنعة الكتابة، استطاع زهير الخراز مد الجسور الناظمة للعلاقة بين عالم الأحلام وعالم الواقع، من خلال تكسير السرد الخطي ورتابته البطيئة، في سعيه للاستثمار الكثيف لصور الفلاشباك الاسترجاعية. ولتيسير هذا المنحى، وجدنا المؤلف ينحو نحو اعتماد جمل وصفية قصيرة تختزل سمات الكتابة البلاغية الكثيفة والمختزلة للمضامين وللاستعارات. وفي هذا المنحى بالذات، استطاع زهير الخراز إنتاج سمات تميزه التي لا شك وأنها تشكل عنوانا مؤطرا لمساره الإبداعي، بأبعاده الجمالية المميزة وبآفاقه الإنسانية الواسعة.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 03/03/2021