قبل الشروع في تناول مسألة علاقة مغاربة العالم، يستحسن بنا تناول مسارات تشكل هذه العلاقة في سياقها التاريخي، فقد بدأت ملامح هذه العلاقة تتشكل بدايات ستينيات القرن الماضي، وذلك بعد موجات الهجرة المنظمة نحو أوروبا الغربية، خصوصا فرنسا، بلجيكا، وهولندا، الغاية حين ذلك كانت واضحة ألا وهي تلبية حاجيات اقتصادية للبلدان الأوروبية من اليد العاملة بعد استنزاف عنصرها البشري بعد الحرب العالمية الثانية والخسائر المادية، بالتالي هذا المعطى فرض على الدول الأوربية استجلاب يد عاملة من الخارج، وفي نفس الوقت استفاد المغرب من التحويلات المالية لدعم احتياطاته من العملة الصعبة.
وطيلة عقود من الزمن بقيت هذه العلاقة في إطارها الوظيفي المحدود، المهاجرون المغاربة في الخارج يشتغلون في الأعمال المهنية الشاقة (البناء، المناجم، الفلاحة) ليقوموا بإرسال المال إلى المغرب وزيارة العائلة في موسم الصيف ليعودوا مجددا إلى الدول المضيفة، وهم يأملون في العودة إلى المغرب بعد حصولهم على التقاعد . هذه العلاقة البسيطة والحالمة للجيل الأول سرعان ما تغيرت نتيجة تغير العقلية نفسها، وذلك بعد نشوء جيل ثانٍ وثالث في دول المهجر منهم من ازداد هناك وتعلم واشتغل وربما تزوج في دول المهجر، حيث إنه لا يعرف عن المغرب إلا أنه يرتبط بعطلة الصيف ، حيث يعتبر نفسه مواطنا كاملا هناك، لكن في نفس الوقت يظل مرتبط رمزيا وعاطفيا بالمغرب، الوطن الأم.
فما وراء المحيطات والبحار، وبين العديد من العواصم والمدن، يعيش أكثر من خمسة ملايين مغربي خارج حدود الوطن. قلوبهم معلقة بذاكرة المكان، وأقدامهم راسخة في واقع بلدان الاستقبال. ينجحون، يبدعون، يؤثرون… لكنهم في أعماقهم يطرحون السؤال ذاته: أين نحن من وطننا؟ وأين هو الوطن منّا؟
لعقود تحدثت السياسات والخطابات الرسمية عن «الجالية المغربية بالخارج» بلغة التقدير والفخر، لكنها مع الأسف بقيت حبيسة المفردات، بينما الواقع ظل أقل طموحا، فلا جسور فعلية بنيت، ولا مؤسسات حقيقية وضعت، ولا شراكة عادلة تحققت.
إنه الجسر الذي لم يبن بعد…
والحديث عن بناء هذا الجسر ليس من باب الترف، بل هو ضرورة استراتيجية لمستقبل المغرب. جسر يعيد صياغة العلاقة بين الدولة وأبنائها في المهجر، لا على أساس التقدير الرمزي أو التحويلات المالية، بل على أساس الاعتراف، المشاركة، والتأثير المتبادل.
في هذا المقال، سنحاول بعد التشخيص، تقديم مقاربة لتغيير شكل ونظام التعاطي مع مغاربة العالم في أساسه؛ نظام العلاقة بين الوطن وأبنائه في المهجر. حيث سنستند على نموذج ما يعرف «تغيير الأنظمة» Systems Change الذي يدعونا إلى تفكيك الشروط العميقة التي تُبقي هذه الفجوة قائمة: من السياسات إلى الممارسات، من العلاقات إلى ديناميكيات السلطة، انتهاء إلى النماذج الذهنية التي تحدد حتى كيف نرى بعضنا البعض، لأن الجالية ليست امتداداً جغرافياً فحسب … بل هي رأسمال إنساني واستراتيجي، آن أوان استثماره.
لقد قامت الدولة بعدة مبادرات، كإحداث الوزارة مكلفة بالمغاربة المقيمين بالخارج ليتم حذفها لاحقا، أو إحداث مجلس الجالية المغربية، ورغم ذلك يمكن القول إن هذه المجهودات لم ترتقِ بالعلاقة بين الجالية ومؤسسات الدولة إلى المستوى المطلوب من المشاركة، والثقة، والتمكين المتبادل حيث إنها ظلت حبيسة لموضوعية التدبير الاحتفالي والمناسباتي.
هذا الأمر يقتضي الحاجة إلى مقاربة جديدة وجذرية، لا تقتصر على الإصلاحات الشكلية فحسب، بل تلامس العمق البنيوي لهذه العلاقة. من خلال مقاربة جديدة، ونقترح هنا مقاربة ما يعرف بـتغيير الأنظمة (Systems Change)، حيث تدعو إلى تفكيك الشروط السياسية والمؤسساتية والثقافية التي تثبت المشاكل في مكانها، والاشتغال عليها بشكل متكامل.
تغيير الأنظمة: الإطار النظري والتحليلي
طبقا للنموذج الذي طوره باحثو مؤسسة FSG، فإن تحقيق التغيير الاجتماعي المستدام يتطلب الاشتغال على ستة شروط مترابطة في ما بينها ، موزعة على ثلاثة مستويات رئيسية:
1- المستوى الظاهر (Explicit) ويشمل ثلاثة عناصر:
أ. السياسات :
لقد ظل تمثيل الجالية في المؤسسات المنتخبة مطلبا مؤجلا رغم التنصيص عليه في دستور 2011، ولا شك أن غياب هذا التمثيل يكرس الإقصاء من المجال السياسي، ويحد من تأثير الجالية في صناعة القرار.
ب. الممارسات: تتعامل القنصليات والمؤسسات الإدارية مع مغاربة العالم بمنطق إداري ضيق، حيث يفتقد في الكثير من الأحيان إلى الكفاءة، والسرعة، وحسن الاستقبال، إضافة إلى كون العديد من الخدمات لا تزال ورقية في عصر الرقمنة.
ج. تدفق الموارد: رغم أن تحويلات الجالية تشكل ثاني مصدر للعملة الصعبة، إلا أن استثمارها في الاقتصاد المنتج لا يزال محدودا نتيجة غياب حوافز حقيقية، وتعقيد المساطر، إضافة إلى عدم وجود وسطاء ماليين موثوقين بهم .
2-المستوى نصف الظاهر (Semi-Explicit)ويشمل:
أ. العلاقات والروابط
لا توجد آليات مؤسساتية دائمة للحوار بين الجالية وصناع القرار، ففي الغالب الأعم تقتصر اللقاءات على الزيارات الموسمية أو المؤتمرات الشكلية، ما يكرس نوعا من القطيعة المعنوية.
ب. ديناميكيات السلطة
إن الحديث عن هذا الأمر يجعلنا نطرح سؤالين مركزين أهمهما هو سؤال من يقرر باسم الجالية؟ والسؤال الثاني سؤال رقابي، وهو كيف ومتى يمكن مساءلته؟ للأسف، تظل هذه الأسئلة معلقة في ظل غياب تمثيلية حقيقية وشفافة، حيث يتم اختيار «الناطقين باسم الجالية» دون أدنى استشارة أو انتخاب فعلي.
3- المستوى الضمني (Implicit)
أ. النماذج الذهنية
ربما يكون هذا هو العنصر الأصعب في التغيير، وهنا لابد أن نشير إلى أن العديد من المسؤلين ينظرون إلى الجالية باعتبارها «مصدرا للتحويلات» فقط، أو باعتباره مواطنا «من درجة ثانية» لا يعيش الواقع المغربي. كما أنه لاتزال في بعض الأحيان تقدم صورة نمطية مغلوطة حول مغاربة المهجر في الإعلام والخطاب السياسي، إما باعتبارهم «ناجحين خارقين»، أو كـ»منفصلين عن الواقع».
خارطة الطريق: خطوات عملية للتغيير
لتجاوز هذا الوضع، نقترح جملة من التدخلات العملية، ترتكز على مبادئ الشراكة، الكرامة، والفعالية:
1- إصلاح السياسات
• إصدار قانون تنظيمي يضمن تمثيل الجالية في البرلمان والمجالس الوطنية.
• تعديل القانون الانتخابي لتمكين مغاربة العالم من التصويت والترشح من الخارج.
2- تحسين الممارسات المؤسسية
• رقمنة جميع الخدمات القنصلية وربطها بالهوية الرقمية الوطنية.
• تكوين الأطر القنصلية في مجالات حقوق الإنسان، التواصل بين الثقافات، وخدمة المواطن.
3. إ عادة توجيه تدفقات الموارد
• إحداث صندوق استثمار خاص بمغاربة العالم لتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة.
• إنشاء آليات تمويل جماعي (Crowdfunding) مخصصة لمشاريع اجتماعية في الجهات المهمشة.
4. بناء الثقة والمؤسسات
• تأسيس المجلس الوطني للجالية المغربية بصلاحيات حقيقية، وانتخاب أعضائه ديمقراطياً من الخارج.
• إحداث مرصد مستقل لتتبع قضايا الجالية وتقديم التقارير للبرلمان والرأي العام.
5. تفكيك احتكار القرار
• إدماج كفاءات مغاربة العالم في المؤسسات العليا للدولة.
• إشراك الجالية في صياغة السياسات العمومية من خلال آليات تشاركية حقيقية.
سياسات مبتكرة ومقاربات تشاركية
بالإضافة إلى هذه التدخلات التقليدية، نحتاج إلى تجديد أدوات العمل ومقاربة التفاعل بطرق غير تقليدية:
أ. المنصات الرقمية التفاعلية
• إطلاق منصة «صوت الجالية» لاستطلاع آرائهم حول السياسات العمومية التي تمسهم.
• تطوير قاعدة بيانات معرفية لكفاءات مغاربة العالم حسب التخصص والبلد.
ب. المجالس المواطناتية بالخارج.
• تشكيل مجالس جهوية في أوروبا، أمريكا الشمالية، إفريقيا وآسيا، تضم فاعلين من مختلف المجالات، تكون بمثابة برلمانات مصغرة للجالية.
ج. تحويل التحويلات إلى أدوات تنموية.
• توفير خدمات تحويل مالية آمنة وسريعة تمكن من استثمار جزء من الأموال مباشرة في مشاريع اقتصادية واجتماعية.
• إصدار سندات سيادية خاصة بمغاربة العالم لدعم مشاريع استراتيجية (بنية تحتية، تعليم، صحة…).
د. الدبلوماسية التشاركية
• إدماج أفراد الجالية في البعثات الاقتصادية والثقافية الرسمية.
• إنشاء ممثليات للجالية في السفارات والقنصليات لتكون همزة وصل حقيقية.
التقييم والمتابعة.
أن أي تدخل دون دون رقابة مواكبة يخشى أن يبقى مجرد نوايا وحب على ورق، وبناء عليه نوصي بـ:
• إنشاء لجنة وطنية مستقلة لتقييم سياسات الجالية.
• نشر مؤشرات سنوية مثل: مدى رضا الجالية، نسبة المشاركة في الحياة العامة، حجم الاستثمارات، وجودة الخدمات القنصلية.
• اعتماد منهجية تشاركية في التقييم عبر إشراك جمعيات الجالية والباحثين المختصين.
من الخطاب إلى الشراكة
لقد حان الوقت لنقولها بوضوح إن الجالية المغربية ليست مجرد ملف إداري أو أداة تمويل فقط ، بل هي شريك حقيقي في بناء مغرب المستقبل.
ولن يتحقق هذا التغيير إلا إذا انتقلنا من الخطاب العاطفي إلى التمكين العملي، ومن الرمزية إلى الفعل، ومن الإقصاء إلى الاعتراف المتبادل.
وبناء على ما سبق، يمكن القول إنه آن الأوان لنعترف بأن العلاقة بين المغرب وجاليته في الخارج لا تحتاج فقط إلى تحسينات إدارية أو رسائل عاطفية، بل إلى تحول بنيوي في الرؤية والممارسة. فالجالية ليست جمهوراً يُصفّق في المناسبات، ولا مجرد مصدر للتحويلات… إنها شريك في البناء، وصوت في القرار، وعين ترى ما لا يُرى من الخارج.
الجيل الجديد من مغاربة العالم لا ينتظر التكريم، بل المسؤولية والتمكين. يريد أن يُسهم في إصلاح المدرسة العمومية، وأن يشارك في التفكير في مستقبل الاقتصاد، وأن يُنتخب لا أن يُمثَّل فقط.
نحن بحاجة إلى جسور لا تربط فقط بين ضفّتين جغرافيتين، بل بين عالمين ذهنيين: عالم الوطن، وعالم الوطن في الخارج. جسور تُبنى من الثقة، من الإصغاء، من الجرأة على مراجعة الذات، وعلى إشراك من ظلوا طويلاً في الهامش.
فالجالية، كما الوطن، ليست في حاجة لمن «يتكلم باسمها»، بل لمن يستمع لها، يعمل معها، وينمو بجانبها.
فلنُطلق ورش بناء الجسر… لا بالمادة فقط، بل بالفكر، بالشراكة، وبإرادة حقيقية لصياغة مغرب يتسع للجميع، بمن فيهم الذين غادروه… ولكنهم لم يغادروه يوماً.
……..
لقد آن الأوان لنعترف بأن العلاقة بين المملكة المغربية ومغاربة العالم لا تحتاج فقط إلى تحسينات إدارية أو رسائل عاطفية، بل إلى تحول بنيوي في الرؤية والممارسة. فالجالية ليست جمهورا يصفق في المناسبات، ولا مجرد مصدر للتحويلات… إنها شريك في البناء، وصوت في القرار، وسفراء للمملكة وتلك العين ترى ما لا يرى من الخارج.
أن الجالية المغربية عرفت تحولات فالجيل الجديد ليس هو الجيل الأول من الجالية إنه جيل لا ينتظر التكريم، بل إن يرغب في المسؤولية والتمكين، فهو جيل يريد أن يسهم في إصلاح المدرسة العمومية، وأن يشارك في التفكير في مستقبل الاقتصاد، يريد أن ينتخب أيضا لا أن يمثل فقط.
وعليه فإن مد الجسور بين مغاربة العالم وبلدهم مد لجسور جغرافية بين ضفتين جغرافيتين، إنه أكثر من ذلك إنه مد الجسور بين ذهنيتين، ذهنية تنظر إلى العالم من داخل الوطن، وذهنية تنظر إلى العالم من خارج الوطن، بالتالي فإن أي مدى لهذه الجسور بعد أن يؤسس على الثقة المتبادلة، لابد أن يعتمد منهجية الإصغاء وهذا الإصغاء يجب أن تستتبعه الجرأة على مراجعة الذات، وعلى إشراك من ظلوا طويلا في الهامش.
فمغاربة العالم ليسوا في حاجة لمن «يتكلم باسمهم» بل لمن يستمع لنبضهم وقضاياهم وتمثلاتهم وأفكارهم، إنهم يحتاجون إلى من يعمل معهم، وينمو بجانبهم .
فلنطلق أولا ورش بناء الجسر… لا بالمادة فقط، بل بالفكر، والشراكة، وبرغبة حقيقية في بناء مغرب يتسع للجميع، بمن فيهم أولائك الذين غادروا الوطن بأجسادهم … ولكنهم لم يغادروا الوطن بـأرواحهم يوما.
* مؤسس ورئيس تنفيذي بـ ImpactForge