لازمت الأوبئة كظاهرة اجتماعية مرضية وضرورة حتمية واقتران استثنائي بتاريخ المغرب، فاختلفت طبيعة العدوى الوبائية، وتنوعت أعراضها ودرجة حدتها واتساع رقعة انتشارها ومخلفاتها البشرية، بسبب الجفاف المتواصل والجذب الحاد والقحط الشديد.
فمنذ قرون عديدة، وكلمة “الوباء” أو “الطاعون” أو “الجائحة” تثير الرّعب في الناس، تقشعر لها الأبدان، وتضيق أمامها النفوس؛ لأنها، ببساطة، صارت في ذهنية المغاربة مرادفًا لفقدان الأهل وللخوف الرّهيب من الموت، إذ تكفي الإصابة به ليَعدّ المصاب نفسه ممن سيلتحقون بطوابير الموتى الملتحقين زمرا إلى العالم الأخروي. هذه النّظرية التي جاء العلم ليفندها ويثبت أنه يمكن التّشافي من الطاعون والعيش بعده طويلًا لنقل الحكايات عنه لمن لم يعرفوه أو يدركوه.
في هذه الحلقات نرصدبرفقتكم محطات من “اوبئة” ضربت بلاد المغرب، فخلفت ضحايا في الخلف من إنس وحيوان
تحتل الظاهرة الوبائية في المغرب أهمية كبرى فهي تشكل معطى بنيويا في التاريخ المغربي، وليس عاملا عارضا أو مستجدا إنما هو أصل متكرر؛ حيث إن الوباء والمجاعات كانت تصيب المغرب كل مرة، والذي يرجع للأرقام التي تحصي هذه الظاهرة سيجد مثلا ما بين القرن 12 والقرن 19 الميلادي أصاب المغرب 140 جائحة، أي ما معدله 17,5 في كل قرن، أو بتعبير آخر مرة في كل خمس سنوات، وهو ما يمكن وصفه بالمعدل المرتفع جدا والذي كان له تداعيات وخيمة على جميع الأصعدة والمستويات. غير أن انتشار هذه الأوبئة كان محدودا في الزمان والمكان، أي أنها كانت تنحصر عموما في مدن دون أخرى وأقاليم بعينها، أو في فترة زمنية محددة قد تتصل بوقت الصيف أو الشتاء، ما يدفعنا للتساؤل عن أسباب انتشار الأوبة في المغرب.
ويؤكد ياسين شادي أن مسألة انتشار الأوبئة في المغرب ترتبط بالعامل الخارجي الذي كان يلج للمغرب من مكانين رئيسيين، يتمثل الأول في الجهة الشمالية عبر البحر (طنجة – تطوان – الناظور- مليلية)، والثاني يتجلى في المنطقة الشرقية عبر الحدود مع الدول التي تعاقبت على حكم الجزائر، وهذا كان الطابع الغالب على انتشار معظم الأوبئة التي اجتاحت المغرب، خاصة إذا استحضرنا معطى مهما يتحدد في كون الحدود المغربية الجزائرية لم يتم إقفالها على مر 8 قرون سوى أربع مرات فقط (سنة 1582 في عهد أحمد منصور الذهبي، وسنة 1679 في عهد مولاي إسماعيل، وسنة 1804 و1810 في عهد المولى سليمان)، ما عدا استثناءات قليلة تكاد تكون جد محدودة، انتشر فيها الوباء بفعل العامل الداخلي، فمثلا سنة 1798 ظهر الطاعون في المغرب وبدأ على إثره الموت ينتشر في القبائل، فعوض أن يتم سن وإقرار إجراءات تسهم في الحد من هذا الوباء، ارتأى السلطان مولاي سليمان أن يسيّر تجريدة عسكرية ليبسط سلطته على القبائل التي لا تنصاع له أو تظهر نوع تمرد، مستغلا انتشار الطاعون وضعفها، فسار بجيشه في إطار ما يسمى “بالحرْكة” من مكناس إلى مراكش، مرورا بالرباط، الشاوية، عبدة، الشياظمة، الرحامنة، قبائل حاحا وغيرها، الشيء الذي تسبب في نقل العدوى بشكل مكثف ومقتل أزيد من في المائة من السكان.
ويضيف شادي أنه على الرغم من أن هذه الحالات التي انتشرت فيها الأوبئة بالمغرب بفعل العامل الداخلي قليلة، إلا أنها كانت تخلّف نتائج وتداعيات جد خطيرة، وهذا عائد من جهة إلى خطورة الوباء في حد ذاته، ومن جهة ثانية يعود لأسلوب تعامل المغرب مع الجائحة أو الوباء. ذلك أن المغرب -على طول المسار التاريخي الذي راكمه- كانت مسألة تعامله مع انتشار الأوبئة سلبية جدا، ذلك أن المؤرخين والباحثين يتحدثون عن كون السلطة المركزية أو ما يسمى “بالمخزن” لم يكن يتدخل حال انتشار الوباء ولا يسن أي إجراءات لمواجهة الجائحة أو المساهمة في الحد منها، فعلى مر التاريخ المغربي الذي عرف 140 وباء وجائحة، لم يتدخل “المخزن” سوى 11 مرة موزعة على 8 قرون، وكان تدخله جد بسيط يتمثل في توزيع القمح والخبز، الشيء الذي جعل البعض يقول بأن المخزن لم تكن لديه لا الإرادة السياسية ولا الوسائل للتدخل إزاء انتشار الوباء، ومردّ ذلك إلى كون المنظومة المخزنية تقليدية وهشة، وحتى ما كانت تجنيه بفعل الضرائب أو ما يسمى بالمُكوس والجبايات كان في معظمه يكفي فقط السلطان وحاشيته، وإذا ما حقق المخزن مداخيل أكثر من المعتاد يتم آنذاك صرفها على الجيش الذي يستفيد منه المخزن في الحفاظ على سلطته أو لكسب ولاء بعض القبائل
٠