مغرب المجاعات والاوبئة -03- الكوارث الطبيعية كانت تصيب جميع الفئات وتنقرض معها المهن

لازمت الأوبئة كظاهرة اجتماعية مرضية وضرورة حتمية واقتران استثنائي بتاريخ المغرب، فاختلفت طبيعة العدوى الوبائية، وتنوعت أعراضها ودرجة حدتها واتساع رقعة انتشارها ومخلفاتها البشرية، بسبب الجفاف المتواصل والجذب الحاد والقحط الشديد.
فمنذ قرون عديدة، وكلمة “الوباء” أو “الطاعون” أو “الجائحة” تثير الرّعب في الناس، تقشعر لها الأبدان، وتضيق أمامها النفوس؛ لأنها، ببساطة، صارت في ذهنية المغاربة مرادفًا لفقدان الأهل وللخوف الرّهيب من الموت، إذ تكفي الإصابة به ليَعدّ المصاب نفسه ممن سيلتحقون بطوابير الموتى الملتحقين زمرا إلى العالم الأخروي. هذه النّظرية التي جاء العلم ليفندها ويثبت أنه يمكن التّشافي من الطاعون والعيش بعده طويلًا لنقل الحكايات عنه لمن لم يعرفوه أو يدركوه.
في هذه الحلقات نرصدبرفقتكم محطات من “اوبئة” ضربت بلاد المغرب، فخلفت ضحايا في الخلف من إنس وحيوان٠

 

ويرى الدكتور ملين إن “الجائحة” في اصطلاح الفقهاء والأدباء والفلاسفة والأطباء في القرون الوسطى تعني “كارثة طبيعية تَحدُث للإنسان، ولا يد له فيها، ولا يملك تفسيرا لحدوثها في الغالب”. وهذا النوع من الجوائح يقسم إلى مجموعة من الأصناف؛
الأوبئة، وأهمها الطاعون، وأنواع أخرى: مثل الزهري، والكوليرا، والنَّزلات، والأمراض الأخرى المعدية التي تنتشر بسرعة؛
الزلازل والبراكين والريح والأعاصير؛
وبالإضافة إلى ذلك، هناك المجاعات، والتي كانت تنتج إما من توالي سنوات الجفاف وقلة التساقطات أو من هجوم الجراد؛ حيث ينتج عن ذلك قحط كبير يتسبب في مجاعات كارثية. ويلاحظ في تاريخ المغرب أن الوباء غالبا ما تنتج عنه مجاعات أو يتزامن معها. وحين يجتمع الوباء مع المجاعة، في وقت واحد، تكون النتائج وخيمة وكارثية للغاية.
وقد كان الطاعون الجارف أو الطاعون الأعظم ـ ضمن هذه الكوارث ـ هو أهم وباء ضرب المغرب. ويسميه الأوروبيون بالطاعون الأسود، وهي جائحة صحية اجتاحت البحر الأبيض المتوسط بين سنتي 1348 و1352م. وكانت له نتائج كارثية على المنطقة بأسرها.
ففي المغرب على سبيل المثال، كان عدد السكان، في سنة 1348م، حوالي خمس ملايين نسمة. ويقدّر المؤرخون أن المغرب في هذه الفترة، بسبب الجائحة المذكورة، فقدَ نسبة 30% إلى 50% من عدد سكانه؛ أي ما بين 1.5 مليون إلى 2.5 مليون نسمة. وهي كارثة عظمى بكل المقاييس! هذا الوباء كان سببا في وقوع انهيار حضاري حقيقي، بعد أن انهار الاقتصاد وانخرم الصرح السياسي، وفُقدت القيادات والنخب، وتحولت الدولة المرينية القوية إلى كيان مترنح. وقد كان ابن خلدون (تـ 1406م) وابن الخطيب (تـ 1374م) من أدق المؤرخين تشخيصا لحالة المغرب الكبير والأقصى خصوصا في هذه الفترة.
وبعد مرور قرنين، يضيف ملين أنه وقعَ وباء عظيم جديد في المغرب، بين 1521 و1524م، وكان متزامنا مع مجاعة قاسية، تسبب في وفاة حوالي 30% من سكان المغرب. وترتب عنه مرة أخرى نزيف ديمغرافي خطير. وكان ذلك من أسباب تقهقر المغرب في هذه المرحلة، رغم قربه من أوروبا التي كانت تعرف ازدهارا حضاريا في هذا الوقت.
إن الكوارث الطبيعية كان لها تأثير خطير على مسار المغرب؛ لأنها ببساطة كانت تقضي على عدد كبير من السكان، ولاسيما القوة العاملة. وكانت جميع الفئات والقطاعات تُـمَس بهذه الجوائح، بما في ذلك الجيش، والإدارة، والأدباء، والحرفيين، والفلاحين؛ وكانت تتسبب أحيانا في انقراض مِهن بأكملها وثقافة عملية ومهنية، وهذا كله مؤثر في مسيرة الأمم، وحاسم في تحديد مكانتها بين غيرها من الدول.
ففي القرن السادس عشر، ستعرف الفلاحة في المغرب تراجعا كبيرا في بعض المناطق، مثل الشاوية وعبدة ودكالة حيث كاد أن يندثر الفلاحون بعد أن توفي ثلث السكان. ويذكر بعض المؤرخين أن آلاف المغاربة اضطروا إلى اعتناق الديانة المسيحية هربا من الجوع والموت وانتقلوا إلى البرتغال وإسبانيا. وزاد الطين بلَّة أن المغرب في هذا الوقت كان مقسما سياسيا. وإن كانت الدولة الوطاسية تسيطر على بعض مناطق الشمال. ولكن عدم قدرتها على التعامل مع هذه الجائحة عجلت بسقوطها وبروز دولة جديدة هي الدولة الزيدانية – (المعروفة في التاريخ الرسمي بالسعدية).
وقد استطاعت هذه الأخيرة أن تتجاوز مخلفات هذه الكارثة، ونجح الأمراء الزيدانيون في كسب ود الناس، خاصة بعد رفعهم لراية الجهاد ضد العدو الخارجي (البرتغالي خاصة). وكان الفضل الأكبر في هذا للأمير الثاني للدولة الزيدانية أحمد حيث كان صاحب البصمة الأساسية في توحيد المغرب من جديد، وجعْل الناس يلتفُّون حول الإيالة الشريفة، قبل أن يستطيع أخوه محمد المهدي القضاء نهائيا


الكاتب : n إعداد مصطفى الناسي

  

بتاريخ : 04/03/2025