لازمت الأوبئة كظاهرة اجتماعية مرضية وضرورة حتمية واقتران استثنائي بتاريخ المغرب، فاختلفت طبيعة العدوى الوبائية، وتنوعت أعراضها ودرجة حدتها واتساع رقعة انتشارها ومخلفاتها البشرية، بسبب الجفاف المتواصل والجذب الحاد والقحط الشديد.
فمنذ قرون عديدة، وكلمة “الوباء” أو “الطاعون” أو “الجائحة” تثير الرّعب في الناس، تقشعر لها الأبدان، وتضيق أمامها النفوس؛ لأنها، ببساطة، صارت في ذهنية المغاربة مرادفًا لفقدان الأهل وللخوف الرّهيب من الموت، إذ تكفي الإصابة به ليَعدّ المصاب نفسه ممن سيلتحقون بطوابير الموتى الملتحقين زمرا إلى العالم الأخروي. هذه النّظرية التي جاء العلم ليفندها ويثبت أنه يمكن التّشافي من الطاعون والعيش بعده طويلًا لنقل الحكايات عنه لمن لم يعرفوه أو يدركوه.
في هذه الحلقات نرصدبرفقتكم محطات من “اوبئة” ضربت بلاد المغرب، فخلفت ضحايا في الخلف من إنس وحيوان٠
من بين أهم الأمراض والأوبئة التي عرفها المغرب خلال فترة “الحماية الفرنسة”، كالتيفوس والجدري والطاعون والجذام وحمى المستنقعات وقد جاءت العديد من ردود فعل المجتمع المغربي وقواه الحية آنذاك وواكبتها العديد من طرق الوقاية من تلك الأمراض أو الوقاية منها في ظل الاستعمار، وهي البحوث التي حاولت استشفاف طبيعة تعاطي الاستعمار مع صحة المغاربة والتقاط ما ظل صامدا في هذا الباب في الزمن الراهن.
وقد اكد معاد اليعكوبي إن “المغرب عرف خلال الفترة الممتدة ما بين 1912 و1945 أمراضا وأوبئة عديدة، وكان التيفوس أخطرها، حيث انتشر بمدن فاس ومراكش وبرشيد والجديدة وسلا وتمارة ودبدو، وبدرجة أكبر بالدار البيضاء والرباط، مخلفا مئات الضحايا، ضمنهم صرعى على قارعة الطريق”.
وبلغة الأرقام، أشار الباحث ذاته إلى أن سنة 1937، أي “سنة الجوع”، انتشر الوباء بوتيرة سريعة، مخلفا مئات المصابين والموتى في صفوف المغاربة بنسبة أكبر، حيث بلغ عدد الإصابات بمدينة مراكش لوحدها يوم 21 دجنبر 1937، 437 حالة، ضمنها 54 وفاة في أوساط المغاربةـ أما بالنسبة للأوروبيين فسجلت 19 إصابة، من بينها وفاة واحدة. وأضاف أن هذا الوباء استشرى بمدينة الدار البيضاء في شهر دجنبر 1937 واستمر إلى غاية يونيو 1938، ومنها انتشر في محيطها، خصوصا منطقة الشاوية ودكالة، وقدر كاليسو 10 آلاف حالة إصابة بالتيفوس خلال هاتين السنتين”.
ويصنف تاريخ الأمراض والأوبئةحسب الباحث معاذ ضمن التاريخ الاجتماعي، وهو التاريخ الذي لا نجده حاضرا بقوة عند جل الإخباريين والمؤرخين منذ العصر الوسيط إلى حدود الفترة المعاصرة، هؤلاء الذين هيمنت في مصادرهم ومراجعهم الوقائع السياسية والعسكرية أكثر من غيرها. وقد شهد المغرب، قبل حلول الاستعمار المباشر، ممارسات في المجال الصحي عكست ثقافة “طبية” مسايرة للبنيات العتيقة القائمة ولوسائل الإنتاج البدائية.
وقد وقع الاختيار على هذا الجانب، نظرا لتأثيره العميق والحاسم على التطور الذي عرفه المغرب على المستويات الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية والديمغرافية، وكذلك لامتداده في الزمن الراهن، ثم وفرة المادة التاريخية المتضمنة لأرقام وإحصاءات وتحريات دقيقة، خصوصا التقارير الاستعمارية الرسمية، التي تسعف في القيام بمحاولة تحليل تاريخي، تنتهي إلى استنتاجات مهمة حول هذا الموضوع.
وعانى المغرب، خلال الفترة التي سبقت الاستعمار المباشر بشدة من الأمراض، وتحديدا الكوليرا، بحسب لويسمييج،وأيضا من نزيف ديمغرافي وارتفاع لمعدلات الوفيات، استمر طيلة فترة الحماية الفرنسية بالمغرب، خصوصا الفترة الممتدة من 1912 إلى 1947، رغم توفر الإدارة الاستعمارية على الإمكانيات والبنيات الصحية.
وفي السنوات الأولى من الاستعمار انتشر وباء الطاعون بالعديد من المناطق، خصوصا منطقة الشاوية، التي قضى فيها على حوالي 10 آلاف ضحية؛ وذلك في سنتي 1911 و1912وفي نهاية سنة 1918، سيحل وباء الزكام الإسباني، الذي انتشر في أوساط الأطباء والممرضين والجنود وأودى بحياة موظفين كبار في الإدارة الاستعمارية الفرنسية؛ وضمنهم صامويل،رئيس مصلحة الأحباس، والكولونيل هنري بيريو،رئيس مصلحة الاستخبارات.
كما عرف المغرب حسب ذات الباحث ، خلال الفترة الممتدة ما بين 1912 و1945، أمراضا وأوبئة عديدة؛ أبرزها التيفوس والجدري والطاعون، ثم الحمى الراجعة خلال الحرب العالمية الثانية وكان التيفوس أخطرها، حيث ارتبط هذا الوباء بالمجاعات والجفاف منذ القرن التاسع عشر واستمر خلال فترة الحماية. ففي سنتي 1913 و1914، ظهر نتيجة لأزمة فلاحية حدثت بفعل الجفاف. وقد وصف المختار السوسي الوضعية خلال هذه الأزمة، بالقول: “ومن الحوادث ما وقع في عام 1331 هـ من الغلاء المفرط، وانحبس المطر ولم تقطر منه قطرة إلا في الأرض المسماة المعادر القبلية، فإنها قد غمرتها السيول وانحشر إليها الناس ممن لهم زريعة..” (المختار السوسي)، فانتشر بمدن فاس ومراكش وبرشيد والجديدة وسلا وتمارةودبدو، وبدرجة أكبر بالدار البيضاء والرباط “إذ تم خلال الأشهر الأولى من سنة 1914 تسجيل 600 حالة بين المغاربة في الدار البيضاء و200 حالة بين الأوروبيين، و700 حالة بين المغاربة في الرباط و150 لدى الأوروبيين”، مخلفا مئات الضحايا، ضمنهم صرعى على قارعة الطريق.