مقابر تحت رحمة «شرع اليد» ضدا على ما ينص عليه الدستور والقانون؟

مشاهد محزنة تؤلم الأحياء ولاتقيم اعتبارا لحرمة الموتى

تسهر المجالس العلمية ومديريات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، كل من موقعه وفي دائرة اختصاصه، على تدبير الشأن الديني والعمل على تكوين العلماء وتأطير الأئمة والوعاظ والمرشدات وكل المتدخلين، بما يسمح بتعزيز الثقافة الدينية على أصولها الحقّة، وتمكين المواطنين من القيام بشعائرهم الدينية المختلفة بالشكل المطلوب، في المنازل كما في المصلّيات والمساجد وحتى في المقابر كذلك، ارتباطا بتفاصيل الموت والدفن، إلا أن هذه الأخيرة باتت تعرف عددا من الممارسات التي تطرح أكثر من علامة استفهام، بسبب سعي البعض لفرض طقوس «دينية» خاصة، تنهل من «شرع اليد» لا من «شرع الله»، فضلا عن ممارسات أخرى تشكل عنوانالفوضى غير مستساغة؟

 

مقابر، باتت تحت رحمة العابثين، وبعيدا عن مسؤوليات المؤسسات التأطيرية المختصة، وذلك تحت أنظار الجميع، بالنظر إلى أنها أصبحت تعيش حالات متعددة للفوضى والتسيب وفي مستويات عدّة، ومن بينها ما يخص الشق الديني. هذه الوضعية دفعت «الاتحاد الاشتراكي» للقيام بزيارة ميدانية لمقبرة الغفران بالدارالبيضاء، فتم الوقوف على مجموعة من مظاهر التطاول على فضاء يربط بين الحياة والموت، ويصل ما بين الدنيا كجسر ومعبر وبين الآخرة.
صلاة على الهوى

تتعدد مظاهر الفوضى بمقبرة الغفران، وتظهر تفاصيلها الأولى بمجرد ولوج سيارة نقل الأموات، التي ما أن تتوقف عند مدخل المقبرة لاستيفاء المسطرة الإدارية وأداء الرسوم الخاصة بالدفن، حتى يتوجّه الموكب مباشرة نحو الأماكن التي ستوارى فيها الجثامين والتي باتت دائرتها تتسع يوما عن يوم.
توجه مباشر، لم يكن معمولا به في وقت سابق، لكن في الظرف الحالي أصبح واقعا ملموسا، إذ عوض ولوج المسجد الذي يوجد عند أول منعطف للصلاة، سواء تعلق بأحد الفروض ومعه صلاة الجنازة، باتت السيارات تطوي المسافات نحو رقعة الدفن التي تتغير بين الفينة والأخرى بسبب نسبة الملء. وإذا كان عدم التوقف في المسجد مقبولا حين تم اعتماد مدخل آخر في مرحلة ما وتم تشييد مسجد ثانٍ وتخصيص مساحات إضافية لاحتضان الأموات، فإن الوضعية اليوم هي جد مختلفة، لأن هجر المسجد بات متعمّدا وأضحى المرافقون للجنائز يقيمون صلاة الجنازة على بعد خطوات من القبور، وأصبح بذلك لكل مجموعة فقيدها وصلاتها التي على هواها، وكل واحدة تصلي بشكل منفرد غير بعيد عن المجموعة الثانية، في تكريس للتفرقة وللشتات، والحال أن الجميع يتواجدون في فضاء واحد ولغاية واحدة؟
مسجد بدون مصلين

وضعية تطرح العديد من التساؤلات، التي، وبكل أسف،تظل بدون أجوبة، فالمسجد الذي يتوفر على مكان للوضوء، وفضاء رحب وفسيح للصلاة في أي وقت، ظهرا أو عصرا، إضافة إلى الصلاة على الجنازة، بات مهجورا منسيا، وهو ما تتبين ملامحه عند التوجه إليه، وتكشفه آثار الإهمال والتخلي عنه الواضحة، حتى أن إمامه أصبح يجد نفسه وحيدا يصلي العديد من الصلوات في غياب مرافقين، خاصة وأن المسجد هو بعيد عن الساكنة وزواره من المفروض أن يكونوا من المصاحبين للجنائز وبعض العاملين ومن يتواجدون في داخل هذه الرقعة الجغرافية.
وحدة أصبحت مألوفة، لدرجة أن طرق أبواب المسجد ووصول جنازة مع مرافقيها أًصبح يبعث على الاستغراب، فالعديد من سائقي سيارات نقل الأموات باتوا، بشكل إرادي أو بإيعاز من أشخاص ما، لا يتوقفون في المسجد، وإذا ما وقع استثناء ما فالدهشة تظهر على إمام المسجد، الذي لم يجد بدوره تفسيرا لما يقع؟

«موسم» الدفن

تعتبر الصلاة على الميت وتشييعه ودفنه من الخطوات التي يحرص العديد من المواطنين على القيام بها، سعيا وراء الأجر والثواب، فضلا عن التعبير عن تقاسم ألم اللحظة مع أقارب الفقيد، جيرانا كانوا أو أصدقاء، كما أن هذه الخطوة تعتبر لحظة لأخذ العبرة وهو سبب أساسي في باب الحث على زيارة المقابر، لكن الزائر لمقبرة الغفران – كنموذج – وعوض أن يجد نفسه في حضرة أجواء تبعث على السكينة والطمأنينة والخشوع، يكتشف بأنه في فضاء أشبه بـ «المواسم»؟
فضاء، لا يحترم فيه الكثير من الأشخاص هول اللحظة وجسامة المصاب، فتجد مجموعة من الأشخاص الذين يسمون أنفسهم بـ «الفقهة» يتحلقون حول عملية دفن جثمان ميت، ويشرعون في قراءة القرءان بأي شكل من الأشكال، وحتى إن لم يتوفر شرط الاستماع، دون الخوض في تفاصيل أخرى ترتبط بمدى صحة الأمر شرعا من عدمه.
تلاوة وترديد على جنبات هذا القبر، وبالقبر المحاذي له قد تجد أن شخصا ما أصبح في لحظة خطيبا وواعظا ومرشدا، سواء كانت له صلة بأهل الفقيد، أو كان غريبا عنهم، وجد في اللحظة مناسبة لكي يقف إلى جانب المشيّعين، قبل أن يأخذ الكلمة ويشرع في الدعاء مرورا بالتأنيب واللوم فالتوجيه، ولا يهم إن اصطدم كلامه بما يردده من هم بجواره، أما إذا أمكن إسكاتهم بتقديم وعد لهم بإكرامهم، فإن خطابه لن يزاحمه أي خطاب!

مقابر بدون هوّية

إذا كان إكرام الميت دفنه، فإن الحفاظ على هوية قبره تعتبر خطوة أساسية حتى يمكن لأقاربه زيارته لاحقا دون أن تتحول الزيارة إلى لحظة تيه وشقاء ومعاناة، الأمر الذي لا يتحقق في عدد من الحالات. إن جولة بسيطة بين قبور مقبرة الغفران ستبين للزائر على أن عددا منها طاله التلف، وضاعت معالمه، والبحث عن معلومات أصحابها تصبح عسيرة، رغم الاستعانة بأشخاص يحضرون داخل المقبرة للقيام بهذه المهمة المتمثلة في البحث عن قبر قريب ما، أو إعادة كتابة اسمه ورقمه أو تهيئته، أو في خطوة أقل تتمثل في رش الماء عليه وزرع بعض «الورود» التي يتم انتزاعها لاحقا لاستعمالها في قبر آخر؟
قبور مجهولة، ليست هي الوحيدة التي يمكن معاينتها داخل مقبرة الغفران، بل تنضاف إليها قبور أرقامها مكرّرة، عدد منها يحمل «هوية رقمية» تتقاسمها مع القبور القريبة منها، أو مع أخرى تفصلها عنها بضعة قبور، لكن القاسم المشترك فيما بينها هو هذا التكرار غير المبرر، والذي يزيد من منسوب التيه ويعمق حيرة زوار المقبرة.

نفايات.. فوضى وأشياء أخرى

في مقبرة الغفران، أصبحت الجنائز تختلط، وبات المشيعون يتيهون بينها، ولا يعرف الكثير منهم أنه يشيع فقيدا غير الفقيد الذي رافق جنازته، والكثير من الفوضى التي تتعدد معالمها، خلال الدفن وبعده، ومن بينها وضعية المسالك والممرات، وبعد المسافات عن المقابر ،إذ لا يستحضر القائمون على المقبرة وضعية كبار السن والمرضى في هذا الصدد.
مظاهر شائنة، تتوزع ما بين وضعية العديد من القبور والنفايات المحيطة بمجموعة منها، وأعداد المتسولين وسؤال الأمن، والأهم من هذا، حفظ كرامة الميت أثناء مواراته الثرى وبعدها، وعدم احترام اللحظة بأبعادها الروحية والإنسانية والاجتماعية، فيخال المرء نفسه أنه في محطة للحافلات، والكل يتسابق للظفر بمكان على متن حافلة منها.

تطوع في غياب «الإرادة»

مظاهر الفوضى المتعددة بمقبرة الغفران، التي تدمي القلوب وتبعث على الألم في كثير من الحالات، تدفع بين الفينة والأخرى عددا من الغيورين من المواطنين المتطوعين ومن الفاعلين الجمعويين، للقيام بمبادرات وحملات تهدف إلى تنظيف بعض أرجاء المقبرة ونزع الأعشاب ومختلف الشوائب التي تحيط بالقبور والعمل على ترميم بعضها وصباغتها، لعلّها تكتسي حلّة جديدة ورونقا يليق بقيمة من يسكنون تحت ترابها.
وضعية، تختلف كثيرا عن تلك التي تعرفها مقابر غير المسلمين، التي تسر الناظرين بفضل النظافة والجمالية وحجم الاعتناء بالقبور ومحيطها، وفقا للعديد من التعاليق والشهادات التي استقتها «الاتحاد الاشتراكي»، الأمر الذي كان يجب أن يكون متوفرا في الغفران وفي غيرها، التي عوض أن تعيش الإهمال، وأن تكون بالنسبة للبعض مصدرا لربح المال والكسب السريع، كان يجب أن تكون موضع عناية واهتمام من طرف كل المتدخلين، من مجلس جماعي وإدارة ترابية ومختلف الفاعلين المعنيين بهذا الفضاء وطقوسه، الدينية والدنيوية.

 

 


الكاتب : وحيد مبارك

  

بتاريخ : 30/11/2022