في خضم زخم الانتصارات الدولية و الأممية لقضية الصحراء المغربية، يأتي تقرير “مجموعة الأزمات الدولية” الذي يحمل عنوان «نافذة للدبلوماسية في الصحراء الغربية» (A Window for Diplomacy in Western Sahara) هو أحدث إصدارات المنظمة غير الحكومية International Crisis Group بتاريخ 20 أكتوبر 2025.
للإشارة، تعد مجموعة الأزمات الدولية مؤسسة بحثية مستقلة مقرها بروكسيل، تعنى بتحليل النزاعات في أكثر من ثمانين بؤرة توتر حول العالم، وتعرف بتقاريرها المعمقة التي ترفع إلى صناع القرار في الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وعدد من العواصم الغربية. ويستند التقرير – كعادة منشورات المجموعة – إلى تحقيقات ميدانية ومقابلات مع مسؤولين مغاربة وجزائريين ودبلوماسيين أوروبيين وأمميين، ما يمنحه طابعا توثيقيا يعكس المزاج الدولي حيال ملف الصحراء في لحظته الراهنة.
دبلوماسية الصحراء: بين زمن الانتظار وموعد الحقيقة
منذ نصف قرن والمغرب يخوض معركته الدبلوماسية في الصحراء بثبات رجل الدولة وصبر التاريخ، بينما يدور العالم في فلك ازدواجية لا تنتهي بين من يعترفون بعدالة قضيته ومن يساومونها على منطق المصلحة. في هذا الصدد، جاء تقرير مجموعة الأزمات الدولية الأخير – المعنون بـ «نافذة للدبلوماسية في الصحراء الغربية» (20 أكتوبر 2025) – ليؤكد أن هذه النافذة التي فُتحت بقرار أمريكي جديد ليست سوى امتحان آخر لقدرة الرباط على تحويل التحولات الجيوسياسية إلى انتصارات سيادية.
ففي افتتاحية التقرير، ورد أن واشنطن أبدت دعمًا صريحًا لخطة الحكم الذاتي المغربية واهتماما بحل النزاع (ص1)، لكنه في الآن ذاته حذر من أن نزوع بعض «التيارات المتشددة في واشنطن والرباط» نحو إنهاء بعثة الأمم المتحدة (مينورسو) أو تصنيف جبهة البوليساريو (كمنظمة إرهابية) قد يضعف فرص التسوية. هذه الملاحظة وحدها، كافية لفهم عمق المأزق الغربي: دعم معلن للحل المغربي، وتوجس خفي من نتائجه.
لكن، وكما يشير التقرير نفسه، فإن أي مقاربة جادة لملف الصحراء لا يمكن أن تتجاهل واقع السيطرة المغربية الهادئة، واستقرار الأقاليم الجنوبية، وواقعية مشروع الحكم الذاتي الذي طرحته الرباط منذ 2007 بوصفه “الحل الوحيد القابل للتطبيق” (ص4). هنا تتبدّى المفارقة بين خطاب دولي يقر بشرعية الطرح المغربي، وبين تردد سياسي يجمد إرادة الحسم.
واشنطن.. بين الرغبة في الوساطة وعبء التناقضات!
يبين التقرير في طياته، أنّ ما سُمي بـ«التحوّل الأمريكي» ليس سوى إعادة تموضع دبلوماسي يحاول استثمار التقدم المغربي دون الاصطدام مع شركاء واشنطن التقليديين. ففي أبريل الماضي، أعلن وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو دعمه لخطة الحكم الذاتي باعتبارها “الأساس الوحيد” للحل (ص5)، ثم عاد ليقترح استئناف المفاوضات برعاية المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا. غير أن ما أعقب هذا الإعلان، كان ارتباكا إداريا داخليا وصراع نفوذ بين مستشارين في البيت الأبيض، ما أدى إلى تجميد أي تحرك فعلي لمدة ثلاثة أشهر (ص6).
تسرد الوثيقة كذلك، سلسلة من الوقائع تكشف كيف ضاعت اللحظة الدبلوماسية في فوضى واشنطن الداخلية. فالمستشار الأمريكي المكلف بإفريقيا، مسعد فارس بولوس، منع في البداية من زيارة المنطقة قبل أن يعاد تكليفه لاحقا (ص6). هذه التفاصيل، تفضح التناقض البنيوي في السياسة الأمريكية: دعم لفظي للمغرب من جهة، وارتباك في إدارة الملف من جهة أخرى.
أما أخطر ما رصده التقرير، فهو تنامي الأصوات اليمينية في واشنطن المطالِبة بإنهاء بعثة مينورسو بدعوى أن “الصراع حسم ميدانيا لصالح المغرب” (ص7). غير أن هذه الطروحات، كما يلاحظ محللو مجموعة الأزمات، قد تفتح الباب لتوتر إقليمي يجر الجزائر والمغرب إلى مواجهة مباشرة. فالحكمة – كما يشير التقرير – تكمن في “صيانة الهدنة عبر دعم جهود الأمم المتحدة لا تقويضها” (ص2).
أوروبا.. بين الاصطفاف الحذر وتغير الموازين
من بين أهم خلاصات التقرير أن أوروبا دخلت بدورها مرحلة مراجعة عميقة في تعاطيها مع قضية الصحراء. فقد نقل التقرير عن المبعوث الأممي دي ميستورا قوله إنّ “الحكم الذاتي ينبغي أن يكون حقيقيًا ويضمن شكلًا موثوقًا من تقرير المصير” (ص3)، وهي صياغة ذكية تتبنى جوهر المبادرة المغربية وتُرضي في الوقت نفسه حساسية الخطاب الأممي.
المثير أن المملكة المتحدة خرجت من حيادها التقليدي وأعلنت في يونيو 2025 أن مبادرة الحكم الذاتي هي “الأساس الواقعي والعملي والأكثر مصداقية للحل” (ص12)، مع الحفاظ على الإشارة إلى “حق الساكنة الصحراوية في تقرير مصيرها”. واعتبرت الرباط هذا الموقف “انتصارًا دبلوماسيًا يُضاف إلى رصيدها” (ص12).
كما تبعت لندن كلٌّ من غانا والبرتغال وكينيا، بل وحتى الرئيس الجنوب الإفريقي السابق جاكوب زوما، الذي وصف الحكم الذاتي بأنه “المخرج الوحيد من النزاع” (ص12–13). ويعلق التقرير بأن هذا التحول “عزّز من عزلة الجزائر والبوليساريو” (ص13).
لكن أوروبا لا تزال، كما لاحظ معدو الوثيقة، عاجزة عن تنسيق موقف موحد بسبب المصالح المتشابكة مع الجزائر في ملف الطاقة والهجرة (ص14). ومع ذلك، فإن الاتجاه العام في القارة يسير نحو الاعتراف الضمني بسيادة المغرب على الصحراء، بعدما أثبت أن الأمن في الساحل الإفريقي يبدأ من استقراره هو، لا من شعارات الانفصال.
الميدان يترجم السياسة: المغرب بين ضبط النفس والاستثمار في السلم
يرصد التقرير حالة “الهدوء المتوتر” السائدة في الميدان منذ استئناف الاشتباكات المحدودة سنة 2020، مشيرًا إلى أن المغرب يملك تفوقا جويًا بفضل طائراته المسيرة، ما حد من قدرة البوليساريو على المناورة (ص15). وفي المقابل، يسجل التقرير أن قيادة الجبهة تواجه تمردا داخل صفوفها الشابة التي باتت “تفضل التصعيد بعد فقدان الأمل في المفاوضات” (ص16).
لكن الرباط، وبدل أن تنجر إلى ردود فعل عسكرية واسعة، اختارت ما يسميه التقرير “الاستثمار في السلم” من خلال مشاريع اقتصادية ضخمة في الطاقات المتجددة والبنية التحتية (ص17). فقد أعلنت الحكومة عن استثمارات تتجاوز 319 مليار درهم في مجال الهيدروجين الأخضر بالمنطقة (ص17)، وهو ما يجعل التنمية أداة سيادة، لا مجرد خطاب سياسي.
ومن اللافت أن التقرير، يعترف – وإن بتحفظ – بأن المغرب قد يفكر في “تسوية الملف أمميا من خلال تصويت في الجمعية العامة لإخراج الصحراء من قائمة الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي” (ص18).
وإذا صح ذلك، فهو تحول استراتيجي يظهر أن الرباط باتت تمتلك أوراق الحسم داخل المؤسسات الدولية نفسها، بعدما نجحت في حشد دعمٍ واسعٍ لمقترحها. ولعلّ أجمل ما يمكن أن يُستفاد من هذه الفقرة في التقرير، هو توصيفه الموضوعي للمشهد: «التوازن الحالي هش، لكنه يعبر عن وعي الطرفين بأن الحرب لم تعد خيارا» (ص19)، وهو توصيف يعكس نجاح المغرب في تثبيت منطق الردع العقلاني بدل المواجهة العبثية.
نحو دبلوماسية مغربية واثقة: من إدارة الأزمة إلى صناعة الحل
في خاتمة تقريرها، تدعو مجموعة الأزمات إلى أن “تتحد الولايات المتحدة وأوروبا لدعم مفاوضات حقيقية تزاوج بين الحكم الذاتي وتقرير المصير” (ص22)، وهو اقتراح لا يبتعد في جوهره عن الرؤية المغربية التي ظلت تؤكد أن الكرامة الوطنية لا تتعارض مع الحوار، بل تبنى من خلاله.
لكن المغرب، كما تكشف مسارات السنوات الأخيرة، تجاوز مرحلة الدفاع إلى مرحلة المبادرة كونه اليوم لا يكتفي بإقناع الآخرين بعدالة قضيته، بل يقدم نموذجا تنمويا في الأقاليم الجنوبية يجعل من الحكم الذاتي واقعا حيا قبل أن يكون نصا سياسيا. وفي الوقت الذي يراهن فيه خصومه على تعبئة دعائية متقادمة، تنجح الرباط في بناء شبكة تحالفات إفريقية وأوروبية جديدة قوامها المصالح المتبادلة والاستقرار المشترك.
أما ازدواجية الغرب، التي ألمح إليها التقرير حين تحدث عن “اختلاف المقاربات بين واشنطن ولندن وباريس” (ص14)، فستظل لحظة اختبارٍ لأخلاقيات السياسة الدولية: «هل ستظل القيم رهينة الجغرافيا؟ أم أن الغرب سيجد الشجاعة ليقول بوضوح إن الحكم الذاتي المغربي هو الحل الواقعي والشرعي والنهائي؟».
لقد أثبتت التجربة، أن المغرب لا يطلب من العالم سوى الاعتراف ببداهة التاريخ: أن الصحراء جزء من كيانه، وأنه اختار طريق السلم والشرعية الدولية. وإن كانت الوثيقة تعتبر هذه المرحلة “نافذة للدبلوماسية”، فإن الرباط تراها بابًا مشرعًا نحو الاعتراف الكامل بسيادتها. وبين النافذة والباب فرق جوهري: الأولى تُطلّ على الاحتمال، والثانية تُفضي إلى الحقيقة.