«.. بات الكثير من الناس حول العالم، مدركين للحضور الوازن للذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في حياتهم، التي أضحت موجودة في كل مكان حولنا.. مع هذا الانتشار الواسع، يخطر على بال الأفراد أسئلة متعددة تخص هذه التقنية من قبيل: «كيف بدأ كل هذا؟»، «في أية مجالات يمكن أن يستخدم فيها الذكاء الاصطناعي؟»، «ماذا يعني ذلك حقا؟»، «ما أخلاقيات عمل وتطبيق الذكاء الاصطناعي؟» وغيرها من التساؤلات التي سنتطرق لها في هذه السلسلة من المقالات حول «الذكاء الإصطناعي»، منطلقين من كونه كان موضوعا للخيال العلمي إلى جزء لا يتجزء من حياتنا اليوم، مرورا بتطور هذا المجال على مر السنين و ما ساهم به في حياتنا، وصولا إلى ما قد يشكله من خطر علينا الآن أو مستقبلا..»..
على سبيل المثال، يطور الطفل الصغير الذي يكتسب لغة دون وعي و بشكل تلقائي و سريع من بيانات ضئيلة (القواعد) نظاما متطورا بشكل مذهل من المبادئ المنطقية. يمكن فهم هذه القواعد، على أنها تعبير عن «نظام التشغيل» الفطري المثبت وراثيا والذي يمنح البشر القدرة على «توليد جمل معقدة و مسارات طويلة فكرية». في الواقع، مثل هذه البرامج عالقة في مرحلة ما قبل التطور المعرفي. إن «أعمق» عيب لديهم هو غياب القدرة الأكثر أهمية هي «الوصف» و «التنبؤ»، و هذه علامات الذكاء الحقيقي.
كمثال، لنفترض أنك تحمل تفاحة في يدك و تركتها تسقط الآن و أنت تراقب النتيجة و تقول: «تسقط التفاحة»، فهذا المشهد يعتبر وصفا، في حين أن «التنبؤ» سيكون «ستسقط التفاحة إذا فتحت يدي». كلا الوصفين ذو قيمة، و كلاهما يمكن أن يكون صحيحا. لكن، يعتبر التفسير شيء أكثر من ذلك، فهو لا يشمل الأوصاف و التنبؤات فحسب، بل أيضا التخمينات المضادة للواقع مثل «أي جسم من هذا القبيل سيسقط»، بالإضافة إلى العبارة الإضافية «بسبب قوة الجاذبية» أو «بسبب إنحناء الزمكان» أو أيا كان وكلها تحيل إلى التفسير السببي. أما لجملة «لم تكن التفاحة لتسقط لولا قوة الجاذبية»، فهذا هو التفكير.
إذا، فجوهر «التعلم الآلي» هو الوصف و التنبؤ… لا شك أن أي تفسير على غرار ما يفعله الإنسان ليس صحيحا بالضرورة ؛ لكنه يحتمل الصحة بالضرورة، فنحن لسنا معصومين من الخطأ، لكن هذا جزء مما يعنيه التفكير: قلكي تكون على صواب، من الممكن أن تكون مخطئا. لا يتكون الذكاء من «التخمينات الإبداعية» فحسب، بل يتكون أيضا من «النقد الإبداعي» حيث يعتمد الفكر البشري على التفسيرات المحتملة و تصحيح الأخطاء، و هي عملية تحد تدريجيا من الإحتمالات التي يمكن النظر فيها بعقلانية (كما قال «شيرلوك هولمز» ل»الدكتور واتسون» : «عندما تقضي على المستحيل، فإن كل ما يتبقى و مهما كان غير محتمل، يجب أن يكون الحقيقة»).
على العكس من ذلك، يبدو أن بعض المتحمسين للتعلم الآلي فخورون بأن إبداعاتهم يمكن أن تولد تنبؤات «علمية» صحيحة (على سبيل المثال ما يتعلق بحركة الأجسام المادية) دون الإستفادة من التفسيرات المعروفة (على سبيل المثال «قوانين نيوتن للحركة والجاذبية» العالمية). لكن، هذا النوع من التنبؤ، حتى عندما يكون ناجحا فلا يعتبر إلا علما زائفا، و في حين أن العلماء يبحثون بالتأكيد عن نظريات لها درجة عالية من التأييد التجريبي، كما لاحظ الفيلسوف «كارل بوبر» قائلا : «نحن لا نبحث عن نظريات محتملة للغاية و إنما عن تفسيرات، و هذا يعني نظريات قوية و غير محتملة للغاية».
إن النظرية القائلة بأن «التفاح يسقط على الأرض لأنها مكانه الطبيعي» (وجهة نظر أرسطو) قد تكون ممكنة، لكنها تدعو فقط إلى مزيد من الأسئلة من قبيل «لماذا على الأرض أن تكون مكانها الطبيعي؟»، أما النظرية القائلة بأن «التفاح يسقط على الأرض لأن الكتلة تنحني الزمكان» (وجهة نظر أينشتاين) غير محتملة إلى حد كبير، لكنها في الواقع تخبرك عن سبب سقوطها. هنا، يظهر الذكاء الحقيقي في القدرة على التفكير و التعبير عن أشياء غير محتملة و متوقعة.
إن الذكاء الحقيقي قادر أيضا على «التفكير الأخلاقي»، و هذا يعني تقييد الإبداع اللامحدود لعقولنا بمجموعة من المبادئ الأخلاقية التي تحدد ما يجب وما لا ينبغي أن يكون (و بالطبع إخضاع هذه المبادئ نفسها للنقد الإبداعي). لكي تكون مفيدة، يجب تمكين «ChatGPT» لتوليد مخرجات ذات مظهر جديد ؛ لكي تكون مقبولة لمعظم مستخدميها، و يجب أن تبتعد عن المحتوى المرفوض أخلاقيا، على أن مبرمجي «ChatGPT» وغيرهم من أعجوبة «التعلم الآلي» قد كافحوا و سيواصلون النضال لتحقيق هذا النوع من التوازن.
باختصار، فإن «ChatGPT» و إخوانه «غير قادرين» على تحقيق التوازن بين الإبداع و القيود. إنهم إما يفرطون في ظهور على الساحة (إنتاج كل من الحقائق والأكاذيب، تأييد القرارات الأخلاقية و غير الأخلاقية على حد سواء) أو يتراجعون عن ذلك (يظهرون عدم الإلتزام بكل القرارات و عدم الإكتراث بالعواقب). بالنظر إلى «اللاأخلاقية» و «العلوم الزائفة» و «عدم الكفاءة اللغوية» لهذه الأنظمة، لا يسعنا إلا نتعجب من شعبيتها وسط العموم.
(يتبع)