رغم ما تزخر به مدينة مكناس من تاريخ عريق، ومعالم شامخة، وموروث حضاري وثقافي فريد، فإن واقعها اليوم لا يعكس مكانتها التي تستحقها. فالعاصمة الإسماعيلية، التي كانت يوماً درة المغرب وأحد أوجهه الحضارية البارزة، تعيش تدهوراً شاملاً على مختلف المستويات، وسط إحباط شعبي عارم وشعور بالإقصاء والتهميش.
قد يبدو للبعض أن تسليط الضوء على هذا الواقع هو ضرب من السوداوية، لكنه للأسف توصيف أقرب ما يكون إلى الحقيقة التي لم تعد تخفى على أحد. فقد أصاب المدينة وهن عميق بسبب تعاقب مسؤولين فشلوا في تدبير شؤونها، سواء كانوا منتخبين أو إداريين، حتى أصبحت مكناس نموذجاً حياً للإهمال وسوء الحوكمة.
مكناس… مدينة تنادي ولا مجيب
مدن عديدة عرفت أوضاعاً مشابهة لمكناس، بل وأحياناً أسوأ، لكنها استطاعت النهوض واستعادت مجدها. أما مكناس، فبقيت حبيسة الجمود، تُنهش مواردها، وتُفرغ من مضمونها الحضاري دون رقيب. فبأي ذنب تُركت هكذا؟ وأين نخبها وطاقاتها التي فضلت الانسحاب بصمت، تاركة المجال للانتهازيين والمتسلقين يعيثون في مفاصل المدينة فساداً؟
لقد تراجع حضور الأطر والمثقفين والأكاديميين الذين آثروا الابتعاد عن ساحة اتسع فيها المجال لأشباه الفاعلين الذين يشنون «حروبهم الافتراضية « بالوكالة عبر وسائل التواصل، خدمة لأجندة من عاث فسادا في المدينة ويدعي الطهرانية كمثل العاهرة التي تحاضر في الشرف.
تهميش ممنهج ومعالم تُباد
تُصنف مكناس ضمن التراث الإنساني العالمي، لكن واقعها يناقض هذا الاعتراف الدولي. البنية التحتية مهترئة، النقل الحضري في حالة يرثى لها، الأحياء مهمشة، الشوارع مظلمة، والفضاءات الخضراء أُزيلت لتحل محلها بنايات نبتت عشوائيا أو رشوائيا لا فرق في ظل رخص استثنائية مشبوهة. أما الأسواق التي صرفت عليها ميزانيات ضخمة، فقد تحولت إلى أطلال مهجورة.
حتى مشاريع المدينة الكبرى، كثير منها لم ينجز، أو أفرغ من محتواه، أو نفذ بمعايير مغشوشة. وتكفي نظرة سريعة على المشهد العمراني للمدينة لمعرفة حجم الفوضى، حيث تضاف الطوابق في جنح الظلام وحتى بالنهار (على عينك أبنعدي)، وتستباح المعالم التاريخية رغم ما يصرف عليها ضمن المشروع الملكي لتثمين المدينة العتيقة، في ظل صمت مريب من الجهات المعنية.
صورة قاتمة في مرآة التنمية
في ظل هذا التدهور، تتساءل ساكنة مكناس: هل هذه هي الصورة التي نرغب في تسويقها عن مدينتنا؟ مدينة غنية بإمكاناتها، لكنها تدار بمنطق «الاغتناء السريع»؟ فأين هي المراقبة وأين هو القانون والمحاسبة والمواطنة التي يُفترض أن تكون ركائز الحكامة الجيدة؟
الأنشطة الاقتصادية والثقافية محدودة. وإذا استثنينا المعرض الدولي للفلاحة الذي يُعد النقطة المضيئة الوحيدة، رغم عدم تفاعل المسؤولين بالشكل المطلوب مع الرؤية الملكية لجعل مكناس عاصمة للفلاحة الإفريقية، فإن باقي الفعاليات لا ترقى إلى التطلعات. فـموسم عيد المولد النبوي ينعش المدينة لبضعة أيام، ثم تعود إلى سباتها، أما الملتقى الوطني للمسرح فتم ترحيله إلى تطوان بعد 16 دورة احتضنتها مكناس، وتوقف مهرجان عيساوة أما مهرجان وليلي فتم تحويله من فضاءه التاريخي إلى قاعات مغلقة ، فيما بقي ملتقى الدراما التلفزية نقطة مضيئة رغم ما يعتريه من نواقص، أما مهرجان سينما التحريك، فلا أثر له على المدينة ولا يعود عليها بفائدة تذكر.
نداء من قلب المدينة
اليوم، لا أمل يُراهن عليه سكان مكناس أكثر من زيارة ملكية ميمونة تعيد الاعتبار للعاصمة الإسماعيلية، وتضع حداً لمسلسل الإهمال والفساد الذي ينخر جسدها. فالساكنة عبّرت، ولا تزال تعبر، من خلال منصات التواصل الاجتماعي عن تطلعها إلى تدخل ملكي يعيد مكناس إلى سكة التنمية.
مكناس، المدينة التي أنجبت رجالاً وساهمت في صنع تاريخ المغرب، تستحق أكثر من مجرد نظرة شفقة. تستحق مشروعاً تنموياً حقيقياً، إرادة سياسية صادقة، وقيادات مخلصة تُخرجها من براثن التهميش إلى آفاق الازدهار.
فمتى يتوقف هذا النزيف؟ ومتى تُفعّل مكناس ما هو جميل فيها… بعدما عُطّل؟
ملحوظة : هذا المقال نشر في جريدة الاتحاد الاشتراكي يوم 27 مارس 2010 وأعيد نشره بتصرف