تضررت مبانيه بنسبة كبيرة … «ملاح» مراكش: حكاية حي أنشأه السعديون لحماية «أهل الذمة»

تسبب الزلزال الذي شهدته بلادنا، يوم 8 شتنبر الجاري، في هدم عدة منازل بمدينة مراكش خاصة في ما يعرف بحي الملاح الذي تضررت مساكنه بنسبة 60 في المائة ما بين منازل تهدمت كليا وأخرى عرفت انهيارا جزئيا.
هذا الحي عرف تاريخيا بالملاح أو بالحي اليهودي والذي اعتبر ثاني أكبر» ملاح» بالمغرب بعد ملاح فاس، قبل أن تتحول تسميته الى حي السلام بعد هجرة اليهود منه، وقبل أن يعود الى تسميته القديمة «الملاح» في 2016 بعد ان أمر جلالة الملك مُحمد السادس بإعادة تسمية الشوارع التي لها علاقة بالتراث اليهودي للمدينة.

 

يهود مراكش
على الرغم من أن مدينة مراكش أسسها المرابطون عام 1060، إلا أن اليهود استقروا على بعد 40 كيلومترًا ولم يُسجل أي وجود يهودي في المدينة إلا في عام 1232. بعد سقوط الأندلس وطَرد اليهود من شبه الجزيرة الإيبيرية عام 1492، بدأ اليهود في الوُصول بأعدادٍ كبيرة إلى المغرب، واستقروا غالبا في المدن واختلطوا بالسكان اليهود المحليين. العديد من المِلَاح أُنشئت لحماية اليهود تحت وضع أهل الذمة. وقد أُنشِئَ ملاح مراكش بمرسومٍ من السلطان السعدي عبد الله الغالب عام 1558، خارج أسوار قصر البديع، وخلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، كان الملاح إحدى المناطق التجارية الرئيسية في المدينة، وكان آنذاك حيا مُسورا، تُغلقُ أبوابه ليلا.
وكان اليهود ، في عهد الأمير علي بن يوسف المرابطي، لا يقيمون بمدينة مراكش في بداية تأسيسها ولا يتوفرون على ملاح خاص بهم، فقد كانوا يدخلون إليها في النهار للقيام بأعمالهم وقضاء مآربهم، وقبل حلول المساء يغادرون المدينة مخافة استباحة مالهم ودمهم وهو العرف الذي كان سائدا أنذاك، مما جعلهم حريصين على الانصراف منها في آخر النهار.
يحمل الحي اسم «حي الملاح»، وهو اسم لطالما أطلق على الأحياء اليهودية في المدن المغربية، ويضم كنيس «صلاة العازمة»، أو كنيس «صلاة العظمة» آخر كنيس في الحي، الذي بني عام 1492 إبان فترة محاكم التفتيش التي أرغم خلالها اليهود على الرحيل من إسبانيا.
وكان الكنيس يستقبل التلاميذ اليهود الذين كانوا يرسلون من البلدات الأمازيغية لتعلم التوراة لأجيال عديدة. وقد خلا من طلابه تدريجيا مع هجرة اليهود بعد الى إسرائيل عام 1948 واستقلال المغرب عن فرنسا عام 1956.وقبل موجات الرحيل، كان المغرب يضم أكبر جالية يهودية في شمال أفريقيا يتراوح عددها بين 250 ألفا و300 ألف نسمة وفق التقديرات. وقد تراجع هذا العدد الآن كثيرا.. وكانت مراكش، وحدها ، تضم أكثر من سبعين ألف يهودي في إحصاء 1947، إلا أنهم أصبحوا قلة قليلة ، وهم في غالبيتهم من المسنين .
غير بعيد عن الكنيس، توجد ساحة القزادرية المجاورة لسوق التوابل الذي خضع للترميم هو أيضا.

جذور استقرار اليهود بـ» الملاح»
يُرجع بعض الباحثين أصول يهود مراكش إلى مدينة أغمات والقرى المحيطة بها، وذلك قبل مجيء اليهود المطرودين من الأندلس، بحيث يحتمل أن هذه الطائفة اليهودية القادمة من إسبانيا هي التي شجعت اليهود البلديين للتوجه إلى مدينة مراكش للإقامة بها، ويبدو أن قرار منع اليهود من الاستقرار بالمدينة لم يعد معمولا به كما كان الأمر في عهد المرابطين.
ولا توجد معطيات دقيقة حول السماح لليهود بالسكن في مراكش، ويحتمل أن ذلك كان في نهاية القرن 15م، الذي تزامن مع وصول الأفواج الأولى من يهود الأندلس المطرودين من إسبانيا. ففي هذه الفترة، وفدت على المغرب أعداد كبيرة من اليهود «الروميين» الدين قصدوا الحواضر المغربية، فكانت مراكش مقصد بعضهم.تبعا لذلك، وردت بعض الإشارات عند مارمول كارفخال تفيد أن مراكش كانت تضم سنة 1540م حيا لليهود به أزيد من ثلاثة آلاف منزل! وبعد ثلاث عشرة سنة، إثر آخر زيارة لديكو دي طوريس لمراكش أصبح بالمدينة تجمعان لليهود يقيم بهما الآلاف منهم.
كان موقع التجمع اليهودي الأول، حسب ما ورد عند ديكو دي طوريس بما يعرف بحومة «المواسين» بمراكش، ويرى كاستون دوفيردان أن اسم «المواسين» عُرف به أحد دروب التي كان يصنع فيه « الموسى» وكان ذلك من اختصاص اليهود.
أما موقع التجمع اليهودي الثاني فحدد في مكان قد يكون محاذيا لحومة «أسوال» التي أصبحت تنطق تحريفا بـ»أسول»، مما جعل هذا الباحث يتساءل عن علاقة اسم حومة « أسول» بأصل اليهود المغاربة المعروفون باسم « أسولين «.

اختلاف حول تاريخ بناء الملاح
لم يكن تجميع اليهود في حي خاص بهم بمراكش هو الأول من نوعه في حاضرة مغربية، بل يعد الثاني، حيث أقيم لهم قبل ذلك في سنة 1438م، أو قبل ذلك، حي مشابه بفاس. ومن المرجح أن تزايد أعداد اليهود بمراكش، وما كان لذلك من آثار على التركيبة الاجتماعية للمدينة، هو الذي دفع الأشراف السعديين إلى تخصيص حي لهم.
هناك اتفاق بين المصادر التاريخية على أن السلطان عبد الله الغالب بأمر الله السعدي (946-981هـ/ 1557-1574م) هو من أمر ببناء حي خاص لليهود بمراكش، وكانت الغاية من ذلك حشد يهود المدينة داخله وفصلهم عن المسلمين، إلا أن هناك اختلافا في تاريخ ذلك، وقد حاولت الباحثة إميلي غوتريك ضبط هذا التاريخ بالاعتماد على بعض المعطيات المصدرية المباشرة، إضافة إلى ما توصلت إليه مما علق في الذاكرة الشعبية اليهودية.
فبالنسبة للمعطيات المصدرية، فقد اعتمدت الباحثة على نصين لإسبانيين أقاما بمراكش مدة من الزمن، غير أنهما غادراها قبيل الشروع في بناء الملاح، وهما مارمول كارفخال صاحب كتاب»إفريقيا»، وديكو دي طوريس، صاحب كتاب»تاريخ الشرفاء».
فخلال الفترة التي كان مارمول مقيما بمراكش إلى حدود سنة 1540م لم يكن ملاح اليهود قد بني، حيث أورد في كتابه أن اليهود المقيمين بـ مراكش كانوا يمتلكون منازل وسط المدينة، وكانوا مختلطين مع السكان المسلمين. لم يكن الملاح موجودا أيضا سنة 1553م، لأنه في آخر زيارة لطوريس خلال هذه السنة، وحسب ما أشار إليه في كتابه أن اليهود كانوا يقيمون في تجمعين سكنيين متفرقين، وقد نبه أن هناك أمرا سلطانيا بتخصيص حي يهودي “Judéria” أحيطت به الأسوار في ساحة كبيرة بموضع داخل المدينة بالقرب من باب فاس، حيث خصص لاستقبال ألفي يهودي، كانوا يقيمون متفرقين بين ظهراني المسلمين.
أفاد هاذان المؤلفان بمصدريهما ومزامنتهما خلال إقامتها بمراكش للفترة التي سبقت إقامة ملاح خاص باليهود، إلا أنه عند شروع كل منهما في تصنيف كتابه (طوريس سنة 1554م) و(مارمول سنة 1570م) ظهر الملاح للوجود!
انطلاقا من ذلك، وحسب بعض الباحثين، فإن الملاح اليهودي بمراكش بني بين سنتي 1553م و1573م، يعني بين تاريخ آخَر مرة زار فيها ديكو دي طوريس المدينة وتاريخ تأليف مارمول كرفخال لكتابه عن إفريقيا.

بِيَعٌ وأسواق وسقايات
لا يعرف من قام بوضع التصميم الأولي لحي اليهود بمراكش لغياب الإشارات المصدرية في الموضوع، غير أن الرواية الشفهية التي كانت متداولة بين اليهود تشير إلى اسم مردخاي بن العطار، حيث شارك في أعمال التشييد وكان من الساهرين عليها، بل ارتبطت بشخصه بعض الكرامات التي كان لها دور كبير في حماية الحي اليهودي وكل المستقرين فيه.
أحيط الملاح بسور تخلله المدخل الرئيس بالجهة الشمالية الغربية، وهو مواجه للقصبة التي تتصل بباقي أحياء المدينة. أما في الجهة الغربية، فيحده سور القصبة الموحدية. يُظهر موقعا السورين الغربي والجنوبي أن الملاح السعدي كان يشمل أيضا المجال المعروف ببريمة، كما أن السور الذي يمتد بالجهة الشرقية ويفصل حومة بريمة عن جنان العافية ينتمي للفترة السعدية، ويحتمل أنه توسع ليشمل السور الشمالي من الملاح.
وبهذا، فالملاح الذي ظهر زمن السعديين كان يستغرق مساحة الملاح القائم اليوم، يضاف إليها الأراضي التي أقيمت عليها حومة بريمة، وقد اتخذ هذا المجال شكلا مستطيلا طوله 700 مترا وعرضه 250 مترا. وتبعا لذلك، قدرت مساحته ب 17.5 هكتار، عرفت توسعة سنة 1594م، حيث أضيفت مساحة تقدر بثمانية هكتارات في الجهة الشرقية خصصت لتكون مقبرة لليهود بعد أن كانت عبارة عن أراضي زراعية تلبي حاجيات سكان الحي ومستلزماتهم.
دفعت المساحة التي كان يمتد عليها ملاح مراكش بعض الأوربيين إلى وصفه بالمدينة الصغيرة، ويشار إلى أن الكثير من هؤلاء كانوا يفضلون الإقامة بملاح اليهود عند زيارتهم لمراكش، وهكذا نجد أن بعض السفراء الأوربيين كالدون فرانسيسكو داكوسطا، مبعوث الملك فيليب الثاني، نزل بملاح اليهود، وقد يفسر هذا بالأجواء المناسبة للإقامة التي يجدونها في هذا الحي اليهودي.
اتخذت دروب الحي اليهودي في غالبيتها شكلا متشابكا، ويحتمل أن يكون ذلك مرتبطا بهاجس أمني يقتضي تنظيم الملاح بشكل معين لضمان المراقبة المستمرة والحماية الفعالة له.
تشكل ملاح اليهود بمراكش، حسب بعض الإشارات المصدرية، من بيعة أو عدة بيع مخصصة لممارسة الشعائر الدينية ولتلقي الدروس التعليمية، ومن الطبيعي أن تكون هناك أسواق ضمت مختلف البضائع والمنتجات الحرفية، لما اشتهر به اليهود من اهتمام بالتجارة وصياغة الحلي واحتراف بعض الصنائع، إضافة إلى وجود سقايات في نقط مختلفة من دروب الحي لتزويد القاطنين به بحاجياتهم من الماء، ثم هناك مقبرة أحدثت منذ سنة 1594.

تغير ملامح الملاح
في نهاية القرن 19 وبعد التحول الذي عرفه الحي من خلال النمو الديمغرافي الكبير الذي عرفته ساكنة مراكش من اليهود، والإبقاء على المساحة نفسها التي تحدها الأسوار دون أي توسع، رفع اليهود المقيمون به رفعوا شكواهم للسلطان مولاي الحسن الأول، فعين وزيره فضول غريط لإحصاء الدور والمحلات السكنية الضيقة الموجودة بالملاح، وقد نفذ العملية كاتب الوزير المذكور عبد الكبير بن هاشم الكتاني وعون باشا مراكش عبد الله بن عمر الشياظمي، فكان عدد الدور التى شملها الإحصاء وهي 210 دارا مكونة من 1272 غرفة، يقيم بها ما مجموعه 5032 من الرجال والنساء البالغين، دون احتساب الأطفال الذين استثنوا من الإحصاء. وقد أسفرت العملية عن الزيادة في توسعة بعض دور الملاح.
تغيرت الصورة التي كانت للملاح في بداياته الأولى مع الوضع الذي أضحى عليه في مطلع القرن العشرين، حيث أصبحت قاتمة للغاية بفعل نزوح اليهود القاطنين به الى إسرائيل ، وفتحه للسكان المغاربة حيث عرف فورة ديموغرافية لم تواكبها أية تحولات على مستوى البنيات التحتية أو أشغال الترميم، فيما عدا التسمية التي تحولت من «الملاح» إلى «حي السلام.»
سيستعيد هذا الحي تسميته في مطلع 2017 بأمر من جلالة الملك محمد السادس في إطار المحافظة على الذاكرة التاريخية لهذه الأماكن، وتطوير السياحة في مراكش ، كما استعادت الأزقة لوحاتها باللغة العبرية، وخضع الحي كله لأشغال ترميم واسعة.
وقد استهدفت أشغال الترميم، التي قُدّرت كلفتها بحوالي 170 مليون درهم ، تطوير مقوّمات الحي السياحية في أغلبها، وبفضل هذا البرنامج تزداد أعداد الزوار والسياح الأجانب الذين يزورون الحي اليهودي القديم في مراكش.


الكاتب : إعداد: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 20/09/2023