ملاكُ الرّعب

السّماء مُلبدة بالغيوم، والجوّ غائم وماطر، والكل متدثر بالملابس الثقيلة الواقية من الشتاء والبرد.
هديرُ الحافلة يهدهد أجساد المسافرين. كأن الرِّحلة بدأت مع نقرات أناملها فوق عضلة فخذي !
في الخارج قطرات المطر الخفيفة تحاكي إيقاع نقرات رؤوس أنامل السيدة في الداخل.
أحيانا، تكون أمنية كلّ مُسافر الجلوس قرب إنسان يرتاح إليه. كانت أمنيتي في تلك السفرة تنشد التفرد بقراءة كتاب جديد. كَذِب من قال: إن الكتاب ضرّة المرأة في الدار أو في السفر، الكتاب سفير من عقل إلى آخر، ومن مكتبة إلى أخرى.. وبوابة للحوار والمعرفة والتعارف.
فجأة، تنبهتْ السيدة لأناملها، وتوقفت عن النقر، فاعتذرت عن ذلك بوجه تكسوه حمرة من الخجل، أجبتها بإيماءة من رأسي عن اعتذارها.
كنتُ أعرف مثل هاته الحركات الخارجة عن إرادتنا. كم من مرّة ضبطتُ فيها يدي سارحة في غابة شعرنا الخفي، ونحن نيام!
كانت امرأة هيفاء، عينان نجلاوان، يبدو منهما بريق شعاع يعبر عن الفرح والانتشاء بأجواء هذه السفرة، وهي لا تستقر عن حال تارة تحجب ستارة النافذة، وأخرى تزيحها جانبا.
سمحتْ لسبابتها النحيفة والطويلة أن تتعقب خطوط ماء متعرجة خلفتها قطرات المطر فوق لوح زجاج النافذة.. فرحٌ طُفولي ! أعادني لقولة نِتْشه : (المرأة طفل كبير)
حملتْ الكتاب من فوق ركبتي دون إذْنٍ مني، وأخذت تقرأ عنوانه بصوت مسموع: “فن الحب عند إيريك فروم.”
نظرت إليّ نظرةً باسمةً، وقالت:” أما زِلْتَ تحب”؟
غالبتُ نظرةً وَدُودةً، وأجبتها:” الحب يصون ويوطد أقدام الانسان على الأرض المتواجد فيها، ليتجاوز نظام الأبدية حيث البقاء الأصيل.”
تفحصتْ بعينيها مكان نقرات أناملها، إلا أن نسيج ثوب سروالي الجينز الباهت اللون قدْ تَشرّبَ رَشْح رُؤوس أنامِلها.
أدارتْ ظهرها ناحية النّافذة المبللة بقطرات المطر، بدأت سيدة حقيقية وافرة اللحم، بأكتاف عريضة، ورقبة بيضاء بياض الثلج، بارزة جدا تطوقها سلسلة ذهبية رقيقة زاد لمعانها بهاءً إضافياً للبياض.
فعلا، إنها امرأة لا تخرج من الجسد المكتنز الذي يكتنفها، كانت كلها حيوية ومرح لا تستكين على وضع، كسمكة في يد صياد انتشلها للتوّ من الماء، بخفة حركاتها الرشيقة والمندفعة، التّواقة للانعتاق من أسر المقعد الضيق.
قالت لي:- أنا أحب مدينة أسفي!
-هل أنتَ مُعلم هناك؟
أجبتها بالنّفي: لا.. سفري هذا مجرد هُروب من المدينة.
ضحكت، وعقبت ساخرة: – تهرب من إلى المدينة؟
-أهرب من المُدن الكبيرة التي تعيش الضياع والانحلال إلى مُدن صغيرة هادئة.
كانت تذكرة سفري تحمل رقم سبعة، وهو الرقم الذي ذكرني بالرّسمة التّي ترسمها أسراب الطيور المهاجرة في السماء(٧) هذه الرسمة التي ينعتها المتصوفة بالإشارة الإلهية، وهناك من يقول، بأنها أوحت بشكلها الشبيه برأس الرمح، لصناع القوارب باتخاذها مُقدمة لمراكبهم حتى تشق تيار الماء القوي وتخرقه بمقدمتها فاسحة الطريق لباقي هيكل القارب المندفع إلى الأمام. والأمر سِيّان عند سرب الطيور في مواجهة تيار الهواء القوي ، وامتدادا للطيور اتخذته الطائرات لنفس الغاية!
أغلقتْ السيدة دفتي الكتاب ووضعته فوق فخذي، وهي تسألني:
– أهذه بلدة الزاوية؟
أجبتها:- لا . هذه «جمعة سحيم».
دخان الشّواء، ودكاكين مصطفة، حياة صاخبة وضاجة بالسوّقة، والمسافرين، طلب منّا مُساعد السائق ربع ساعة للتوقف. هبطتُ الدرجات الثلاث للحافلة وقصدتُ مقهى شعبي، كانت السيدة تتعقب خطواتي، جلستْ حيث جلستُ، طاولة بدون غطاء، خشبها مغسول بماء المطر..طلبنا شايا بالنعناع، سألتني عن الكتاب، قلت لها مازحا:
« العبُود أسبق من المعبُود.» وقفتْ متلهفة لرائحةِ الشّواء. ماذا تأكل؟ كانت عيناي تأكل أردافها البارزتين من ثوب جلبابها الوردي الشفاف.. الكبد أم البِفْتيك، قالت؟
-أجبتها ضاحكا: «خياران لا يبغيان ثالث بينهما». عقبتْ ويدها تشير إلى ناحية بائع الشواء :» لحم لحم!
رغم طاولتنا البئيسة، والتي لم يوضع فوقها الأكل بعد، تسللتْ إلى تحتها بعض القطط، أخذت تتسمح بقدمي في رجاءٍ لمدّها بِلُقيْمَات للأكل.
عادتْ السيدة مُحملة بصحنين من اللحم المشوي والخبز. حينئذ قلت لنفسي:» لكلّ صَيْدٍ طُعمه الذي يتصيدهُ. كنّا منهمكين في نَهْش اللّحم دون حديث أو كلام، كان كل مِنّا يحدث نفسه، برهة سألتني عن رأيي في اللحم؟ أجبتها باقتضاب: «كل ما يسكت نِداء المعدة، فهو جميل».
كان مواء القطط يسمع بشكل لافت، انحنت السيدة لإطعامها، فجأة، اصطبغ وجهها بالاحمرار كانت القطط تعبر عن سعادتها وهي في ذروة الوِدَاق.
سمعنا المنادي يصيح: «أصحاب أسفي» خففنا الوطء للالتحاق بالحافلة، طلبت مني أن نتبادل بالأماكن هكذا أصبح رقم مقعدي(8) الرقم الذي تشكل هيئته شكل امرأة: عريض عند الصدر، ونحيف عند الخصر وواسع عند الحوض! كما له دلالة اليوم العالمي للمرأة بثامن مارس من كل سنة، أما عند الصّم البكم ف: «ثمانية» متمثلة بابتعاد الإبهام عن السبابة ! ( في اللغة الايمائية).
منحتني كوبا من الرائب شكرتها، نزعت عنه سدادته، وتنبهتُ قبل أن أضعها في مكان النّفايات، كان كتاب (فن الحب) حاصلا في شبكة سوداء على ظهر المقعد أمامي، تداركت السيدة وأخذتها مني، ووضعتها في شبكة المقعد أمامها .
هربتُ نظري ناحية النافذة كانت الرياح الهوجاء تلاعب رذاذ المطر يمينا وشمالا. التهمتُ محتوى الكوب، وبعد إفراغه تسلمته مني بخفة ووضعته داخل كيس أسود احتفظت به.
قالت إلي :الجو شاعري؟
وافقتها بإشارة من رأسي، المثقل بالنوم المفاجئ.
كانت رؤوس المسافرين مطأطأة ،ربما من وعثاء السفر أو النوم. حاولتُ مقاومة النّوم ،لكن جفوني أحسّها تنغلق من تلقاء نفسها ..قاومت لكن..
في المحطة كانت يد المساعد تخضني خضا عنيفا لكي أستيقظ. كنت راقدا ووجهي مسنود إلى النافذة. لم يكن في وسعي إلا أن أنظر في رفض شاحب مع كل ما حدث.
صاح السائق من خلف الحشد المتحلق حولي: «كنت أظنها زوجته أو خطيبته، ( أقسم على ذلك).
استيقظت فزعا، أتفرس في الوجوه الكالحة المتحلقة حولي، وهي تضحك مِلْء أفواهها.
تفقدتُ أغراضي التي جُرِدتُ منها: الحقيبة، وحافظة النقود، الهاتف، الساعة اليدوية!
ياه! لم تظفر شبكة صيدي إلا بكتاب (فن الحب) لإيريك فروم وقصاصة كانت على وشك أن تسقط منه كنت دونت فيها :» إن الجمال بداية الرعب..كل ملاك مرعب.»


الكاتب : محمد كويندي

  

بتاريخ : 12/03/2021

أخبار مرتبطة

«أوراق من دفاتر حقوقي» النقيب محمد الصديقي يشهر أوراقه ببني ملال ينظم مسار التميز في الصحافة والإعلام بكلية الآداب والعلوم

  عرف فضاء 5 أكتوبر بالمحمدية يوم الجمعة 28 يونيو 2024 في الساعة السادسة والنصف مساء، لقاء حول الرواية البوليسية

  في تحية لعبد السلام أبو إبراهيم وقد عَبَر بسلام محنة المرض الذي فاجأه وهو يحرث الأمل في دروب الحياة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *