تمهيد:
الشعر الحقيقي لطالما كان لصيقًا بالوجود، خاصة حين يتقاطع مع الألم والقلق الوجودي. فالذات التي تمارس الكتابة لا تفعل ذلك بدافع الترف أو الاستمتاع العابر، بل حين تصيبها الحيرة وتؤرقها تلك الأسئلة التي لا إجابة لها. هنا يصبح الشعر وسيلة للبحث لا للوصول، ومحاولة لفهم الذات في علاقتها بالعالم. وربما ما يميز الشاعر علي أزحاف في هذا الديوان هو قدرته على تحويل الحزن الشخصي إلى حالة كونية، ومأزق فردي إلى مأزق جماعي، بلغة تعكس اغترابه العميق ولا انتماءه الموجع.
ديوان «أكثر من شجرة أقل من غابة « هو عمل شعري صدر عن دار تشكيل المصرية للنشر والتوزيع سنة 2025، ويضم قصائد تتقاطع في موضوعها مع تجربة الألم الإنساني والوعي الثقيل بالوجود. ما يلفت في هذا الديوان هو أن الشاعر لا يتحدث عن ذاته فقط، بل يتحدث عن الإنسان في صيغته الكونية، الإنسان الذي يحاصر من كل الجهات، سواء بقيود داخلية كالخوف والحيرة، أو قيود خارجية كالقوانين الاجتماعية والثقافية.
الحزن كحالة كونية:
في الأدب، سواء أكان شعرًا أم نثرًا، لا يُنظر إلى الحزن كحالة عابرة، بل يُنظر إليه باعتباره وعيًا فادحًا بالوجود وبثقل الزمن الذي يمضي بلا هوادة. هذا الحزن ليس مجرد شعور طارئ، بل هو رؤية وجودية للعالم، رؤية تنطلق من إحساس عميق بعدم الجدوى وبفجوة لا تُردم بين الإنسان وحقيقته.
في ديوان «أكثر من شجرة أقل من غابة» للشاعر علي أزحاف يتجلى هذا الحزن الكوني في قصائد مثل «قطرة ماء»، «ميتافيزيقا»، «وحدك»، و»جنازات»، حيث تنبع اللغة من شعور داخلي بالتمزق، وتكشف الصور الشعرية عن إنسان يجرجر خيبته ويحمل داخله أسئلة لا تجد صدى.
الحزن عند أزحاف ليس حالة ضعف، بل هو موقف وجودي، وهو ما يجعل قصائده أقرب إلى التأمل العميق في هشاشة الكائن، وفي معركته المستمرة ضد الفراغ.
مأزق الذات بين الطبيعة والوجود:
يُعتبر عنوان الديوان مدخلًا مهمًا لفهم مأزق الذات الذي يعالجه الشاعر. اختيار «الشجرة» و»الغابة» ليس اختيارًا بريئًا؛ فالشجرة رمز للفرد المنعزل، والغابة رمز للجماعة أو للانتماء. يبدو أن الشاعر يتأرجح بينهما: يريد أن يكون «أكثر من شجرة»، أي يريد أن يتجاوز عزلته، لكنه في ذات الوقت لا يستطيع أن يكون «غابة» كاملة، أي جزءًا من كُلّ يمنحه الانصهار والطمأنينة. إنه كائن على الحافة، ينتمي ولا ينتمي في آن.
هذا التوتر بين الرغبة في الانتماء والإحساس بالانفصال يتقاطع مع فلسفة العبث عند ألبير كامو، حيث الإنسان يعيش في كون صامت، يطلب إجابات لكنه لا يتلقاها. الحزن في هذه الحالة يتحول إلى استجابة طبيعية لهذا الإدراك المؤلم بأن الحياة تمضي دون أن تفسر نفسها.
في نصوص أزحاف، الطبيعة ليست مجرد ديكور خارجي، بل مرآة داخلية تعكس تمزق الذات: قطرة الماء قد تكون عالقة بين أن تتبخر أو أن تنزلق إلى العدم. الجنازات ليست فقط طقوس وداع، بل استعارات لحيوات تموت داخلنا كل يوم. مأزق الذات عند الشاعر يبدو وكأنه استسلام جميل، أو محاولة للمقاومة بأدوات بسيطة: اللغة، الصورة، والقصيدة.
خاتمة:
ديوان «أكثر من شجرة أقل من غابة»، هو رحلة في دهاليز الذات المأزومة، وصرخة مكتومة في وجه عالم يزداد قسوة وغموضًا. علي أزحاف لا يقدم أجوبة في قصائده، بل يتركنا في مواجهة أسئلتنا العميقة، وهو ما يمنح شعره صدقًا مؤلمًا وجمالًا فريدًا.
الحزن في هذا الديوان ليس مجرد حالة شعورية، بل هو موقف فلسفي يتجاوز حدود الفرد ليصبح قضية إنسانية كونية. ومن خلال التأرجح بين الشجرة والغابة، بين العزلة والجماعة، بين الأمل واليأس، يخط الشاعر معالم تجربة شعرية تستحق أن تُقرأ، لا لتمنحنا عزاء، بل لتجعلنا أكثر وعيًا بثقل الحياة وعبثها الجميل.

