ملتقى الأزمنة في رواية «لا تنس ما تقول» لشعيب حليفي

لا زمن ينسخ ما قبله، يحمله في امتداده بكل سماته وقوة تأثيره ، لا يعيد كل فتراته وإن تداعت اللحظات بما يحيل على وقائع توارت وفقدت كل توهج فورتها.
في مسار الحياة تطفو حكايات تحمل زمنا يلقي بظلاله على زمننا، يعطي لأيامنا كل صفات الانتماء، يحقق خصوصية كياننا ويجلي حقيقة ما نحن فيه. هي بعض من حقائق تلامسها رواية « لا تنس ما تقول» لشعيب حليفي، اجتهاد آخر للكاتب المبدع ، يتجاوز منطوق الحكي ليحيل على تاريخ منطقة ووقع أعرافها في سلوك وطبائع شخوصها . لا يشكل السرد إلا وسيلة لتقديم بحث سوسيولوجي، يستقرئ ثقافة مكان ، يظهر كيف تتجلى ثقافة مجتمع في كل تفاصيل أيام شخوصه.
يدير شمس الدين الغنامي، في رواية « لا تنس ما تقول»، كباقي شخوصها، حياته على إيقاع ما يجلي حقيقة وجدانه ويعطي لكل لحظات وجوده معنى، يتمثلها كما لو كانت أبدية في إيقاع لولبي رتيب، فهو « يعيش زمنين مختلفين ، يتكاملان في روحه ويحققان له الاطمئنان» (ص 11) ، يعيش ازدواجية دون ما تناقض أو انفصام ، يجد نفسه حيث يجب أن يكون ليستمر ككيان بخصوصيات مجتمعية في محيط تحكمه توافقات وأعراف، ويستعيد مباهج وجدانه في ارتقاء روحي وصفاء سريرة. لحظتان فارقتان لا يخفي حاجته إليهما، يراوح بينهما في انسياب اعتاد على وقعه محيطه العائلي والمهني ، رافعا من منسوب شغفه بزمن الأحلام والأماني ، حيث كان والده سليمان الغنامي قدوته وتجسيدا لكل مبتغاه . مساره العلمي ونجاح تجربته المعرفية لم يبعداه عن هوى الأصول وعشق أسرار السلالة، يستحضر في مجرى أيامه تفاصيل عوالم والده ، ما كان يتهيب منه ولا يخشاه في رجات الصمت العميق، حيث كان يرافقه لمناجاة هواجسه ويطلعه على سره. كان مكان الاستقواء الروحي يلفه الصمت والرهبة ، حيث «الكلام يخنق الحقائق»، لا يكون التحليق إلى عوالمه إلا فجرا محفوفا بالتقية والكتمان، ينزلان هو ووالده « بخطى سريعة عبر مسارب وعرة وملتوية هبوطا وطلوعا ، في منحنيات ومنحدرات تخفيها كثافة الأشجار. بعد حوالي نصف ساعة وصلا إلى أجمة كثيفة ، اخترقها الغنامي بيسر وخلفه شمس الدين . وجدا أمامهما بستانا كبيرا يحده جدول مائي ، وفي الجهة الأخرى ، كهفا سحريا ، ولجه الغنامي وشمس الدين وعملا على تنظيفه ، ثم صليا ركعتين» ص 20 . هي عوالم زمنه الآخر، تستهويه ظلالها ويستعيد تفاصيلها، فتتفتق مباهج روحه وتورق لحظات أيامه ما اتسعت رحاب ذكرياته. كل علاقاته تحيله على أمكنة ومواقع تحبل بأحداث تطوحه نسائمها لزمن الرفقة والشغب الجميل ، فضاءات تطفح بأسرار التفوق والإخفاق ، شغف المعرفة ولواعج الحب وفورة الوجدان. الصالحية المنشأ ومسقط الرأس، تعبق بتاريخ الأمجاد ، عوالمها تضج بالأسرار فهي « قلب تامسنا الكبير ، شرايينها سبع قبائل تحيط بها مثل سوار سحري يطوف مع الأرض في صمت . كل قبيلة بها دواوير صغيرة متناثرة كأنها نجوم سابحة « ص 54 ،هي التاريخ ومجاله ، لا يخفي سحرها ما آلت إليه أحوالها ، فهي المبدأ والمنتهى ، في أجوائها يستعيد كيف كان قبل أن يتأمل زمنه الذي صار. كيف ستقوده نباهته إلى مدارج مناه ويعيده زمنه الآخر إلى نسائم مروج علمته كيف يناجي صفاء السماء. وحده جعفر توأم روحه يعرف ما معنى أن تصون، في مجاهل النفس، دم السلالة، يؤمنه على سره ويطلعه على ما انتهى إليه « لن أستطيع تحمل غضب ذرة واحدة من تراب الصالحية « ص 30 . هكذا يعيش في فضائين تتباين فيهما أحواله ويجد في التردد عليهما كل مقومات وجوده في تقابل وتكامل ما تستطيبه الذات وما تهيم به الروح، حيث تتجلى كل معاني الحياة بما يرتبه إيقاع تفاصيل أيامه لتنصهر المسافة بين الزمنين. فالحياة «تجري دون أن يراها أحد ، سريعة وأحيانا متهورة ، وربما تكرر مثلما تفعل الشمس والمطر والفصول والليل والنهار . القدر كامن في الطرقات ، مخاتل أو نائم ، لا أحد يعرف متى يستفيق ليضرب ضرباته العشوائية ، ثم يقرر وجهته التالية ، بأقنعة مختلفة « ص 23.
كيف لمعنى الحياة أن يقوم على تعليل؟ كيف تختصر المسافة الزمنية بين وقائع متباعدة وتنصهر في حيوات بشرية وتحقق الامتداد؟ كل تفاصيل الرواية تعرض حياة شخوصها وهي تزاوج بين ماضيها وما عليه حالها، في استعادة دائمة لعبق التاريخ ، ما خطه الأجداد ورعاه الآباء في تعاقب منتظم تفوح منه صولة المجد وبواعث الاعتزاز، يتمثله الأحفاد في زهو وافتخار قدوة يحققون بها الانتساب لتاريخ تليد:
«ليس هناك باب للزمن ولا أحد يستطيع أن يثبت دخوله إليه أو الخروج منه ، وما الولادة والوفاة إلا أحداث عابرة ، يدركها البلي والنسيان سريعا ، لذلك خلق الله الانسان والكون والحياة ، وخلق معهما الزمن حارسا يحسن تدبير كل شيء ، وهو الزمن الذي يجيد اللعب، ويسمي ذلك لعبا ومصادفات» ص35 الكل « يحيا زمنه وزمن سلالته بحقائقه وخرافاته « في فضاء يضج بمعالم تحيل على صولات من سكنوا الديار قبلهم ، وعلموهم أن الامتداد يحتاج إلى صفاء الجذور حتى لا يعيشوا تائهين في « زمن بلا مزايا « .
في كل التفاصيل يحافظ شخوص الرواية على أواصر ارتباطهم بزمن عزتهم، لا تثيرهم كل غوايات زمن بلا ملامح ولا ظلال ، يعيشون لحظاتهم الرتيبة في انتظار استعادة زمنهم الثاوي في ثنايا الروح، حيث كل شيء على السليقة ، يجعلهم « في كل مرة تحت الشمس أو بين ثنايا الظلام ، يتسرب إلى حديثهم بويا صالح الذي اختفى في أرواحهم بعناية ربانية لا يعلمها إلا هو» (ص118). هكذا تدمج الحكايات في النص وترتبط كل أبعادها بفضاءات متباينة الدلالات، الصالحية تقابل القلعة الكبرى، تختلفان في السمات والعوالم لكل منهما سياقها الخاص ، الخصاص مقابل الوفرة ، قوة المشترك مقابل ضعف الروابط وفي تقاطع الفضاءين تتشكل لحظات مفعمة بكل معاني الحياة .
رواية « لا تنس ما تقول» معمار حكائي يستعيد من خلاله الروائي شعيب حليفي معالم تاريخ طاله النسيان ، أو يجهل الكثير منا موقعه الخاص في تاريخ المغرب العام ، تجارب إنسانية تشكل امتدادا لزمن حضاري كان، كل مآثره تحيل على حقب مثقلة بأحداث وبطولات صنعت مجدا. تاريخ يظهر ويختفي، يحمله الناس للناس في قصائد وأمثال وحكايات شفوية تكشف دلالات المعاني الثاوية في الكلمات، يتمثلها الأجيال مفخرة حين يدركون « كيف عاش (…) حكام تامسنا والصالحية ، منذ صالح الذي طهر الأرض ، وجعل التامسنيين فيها أسيادا أبديين ، ثم جاء الأبناء وضاعت تامسنا ولم يستعيدوا ذكرها إلا بعد أربعة قرون « (ص 170).
شمس الدين الغنامي أكثر شخوص الرواية استبطانا لعوالمها ، والأشد حرصا على ان يجعل يقينه وعيا مؤثرا في ما يجب أن يكون . « من لا تاريخ له، لن يخطو نحو المستقبل بشكل طبيعي. ومن لا ذاكرة له لن يستطيع التحديق في الشمس» ( ص 172) تلك آية تعيد الحكي إلى ناصيته ، تبرز المعنى وتجلي كل التباس. تقابلها كناية أخرى شاسعة المعنى. «بعد الغروب ، ترتخي الأرواح وترنو إلى السكينة بلا حساب. تعلو إلى الأعلى لتغرق وتتطهر في أمواج بلا ماء، وتسبح بعيدا عن عوالم العابرين. « (ص 172)


الكاتب : أحمد حبشي

  

بتاريخ : 03/10/2020

أخبار مرتبطة

  لاشك في أن كتاب «الرواية البوليسية التأصيل والتحول» للكاتب محمد الكرون يسد فراغا في المكتبة المغربية خصوصا والعربية عموما،

أُسَمَّى الزاهية، وهو اسم من أصل عربي، ومعناه «المبتهجة». انفجرت من الضحك يوم عَرفْت ذلك، ففي داخلي، توجدُ دموعٌ أكثر

شفشاون تنصت لأصوات نسائية يستضيف المعرض الجهوي للكتاب بشفشاون في دورته 12 التي تنطلق من 27 يونيو إلى 4 يوليوز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *