منامة القصة: القاص محمد اكويندي يمد سكة الحلم في مجموعته القصصية «غيلم زفزاف»

جسر ماكس شيلر

إن كل قراءة جادَّة لابد وأن تسعى إلى تثبيت نظام ما. تَسْتَحِثُّ هِمَّتَكَ فَتَقْبِضُ على تلابيب ذلك النظام بعد عمل شاق. ذلك النظام الذي يجعلك تندهش. إنه باختصار التكرار الذي يصبح بمثابة وساطة تريد المرور إلى متخيل الكاتب، أي إلى الأرضية الخلفية التي أراد أن يحولها إلى واجهة. فمهمة القاص ككاتب هي أن يحول الباطن إلى ظاهر، حيث يكون الظاهر هو استمرار للباطن، والباطن هو استمرار للظاهر على غرار ماقاله ماكس شيلر بخصوص الأشخاص الآخرين، و الذين نستطيع أن نغرس بينهم القصاصين. فبالنسبة إليه الوعي – وعي القاص أيضا – بمثابة كُلّ، أي ليس مجرد قطعة لحم نيئة يمكن تقطيعها إلى قطع صغيرة. فهناك دائما جسر بين الداخل والخارج. لذلك فأي محاولة للتقطيع تصبح مجرد محاولة فاشلة. محاولة تهدم نفسها، بل تهدم البناء الذي تريد أن تبنيه. فلنتخيل بَنَّاءً يَهْدِم بدل أن يبني. يبني دون أن يَتَقَدَّم في بنائه، بحيث ينهار كل شيء أمامه. لذلك فإذا كنا سننظر إلى مجموعة القاص محمد اكويندي كمعيار ونموذج، فنحن سنجد أن الحلم هو التيمة التي تقبض على تلابيبنا طيلة عملية القص. ذلك أننا نجد طيلة مجموعة «غيلم زفزاف» حضورا قويا لمفاهيم:الحلم، النوم، الليل، اليقظة، السر. فهناك تناوب صارم بين اليقظة و الحلم. فكأنَّ القاص محمد اكويندي أراد أن يحول الحلم إلى يقظة، أي أن يجعله يتماهى مع إيقاع اليومي. فيجذبه إليه مثلما يجذب المغناطيس قطعة حديدية. فلماذا التوجه إلى الحلم في الكتابة؟ لماذا الذهاب إلى اللاعب بدل الوعي؟ أليس اللاوغي تكملة للوعي؟

مصباح اسبينوزا

لطالما كانت الحقيقة هي المصباح الذي ينير ذاته بذاته. فداخل غرفة مظلمة أول ما نراه هو المصباح، ثم نرى الأشياء الأخرى. المصباح هو أول ما نراه حينما ينفجر ذلك الشعاع الخرافي المبهر الذي يجعلنا نحس برجفة لا تضاهى. هذا ما قاله الحكيم باروخ اسبينوزا. هي نفس تلك الرجفة التي نحس بها، ونحن نقرأ قصص القاص المغربي محمد اكويندي. فقصة واحدة تكفى لطرد حلكة غرفة بحجم ملعب رياضي. غرفة كتلك التي دفن فيها الفرعون أمنحتب. غرفة يصبح فيها قضم الخيالات أسهل من قضم تفاحة طازجة حصلت عليها، وأنت تمشي على رؤوس بنانك، مجربا تمشيط أرضية المنزل كجندي من المستكشفين القدامى، الذين كانوا يذهبون لاستطلاع مدى خطورة جيش العدو. هكذا هي قصص مجموعة «غيلم زفزاف» . قصص تمنحك رباطة الجأش التي تجعلك تستطيع الانخراط في معارك جيش الإسكندر المقدوني دون أن يرف لك جفن، أو فقط اختلاس تفاحة من تفاح الطفولة من مخبأ الأمهات المحكم في جيوب المطابخ، والبعيدة عن الأيادي الآثمة.
إنها قصص مليئة بشظايا الليل المفتتة ورقائق الظلمة الغامضة التي تتحول إلى نور، إذ نجده يقول في قصة «حمام ساخن:»لوحدي كنت تلك الليلة كوريث شرعي أستحم داخل قاعة الحمام الساخنة تحيط بي الدلاء السوداء كرؤوس خلفتها مقصلة دكتاتور إفريقي»*.

شجرة ديكارت

كانت الفلسفة عند ديكارت بمثابة شجرة. شجرة جذورها الميتافيزيقا، وجذعها الفيزيقا، و أغصانها هي الميكانيكا والطب والأخلاق. أما جذور القصة عند القاص محمد اكويندي فهي تلك الأساطير التي تحولت إلى ملح الدهشة. ففي» غيلم زفزاف» نجد توظيفا عميقا لأسطورة هيرمس آلهة البحارة، وإبن زيوس، ومايا بنت الجبار أطلس، وهو صاحب الصندل المجنح، وهو أيضا المسلح بقوة سحرية تساعد على النوم والأحلام. لذلك فقصص هاته المجموعة هي عبارة عن بستان يمتلئ بشتائل النوم والأحلام. أحلام تنبت هنا وهناك. أحلام تزهر داخل غالبية القصص. أحلام براعمها هي عبارة عن كبسولات نوم جاهزة للإلتهام. أحلام تبحث عن مفسرين من أمثال أرتيمود دوراس وسيجموند فرويد واِبن سيرين. لذلك ففضاءات هاته القصص هي عبارة عن ساحات للنوم، و أبطالها نيام معاصرون. ففي قصة بومة الغسق نجد البطل يقول:»استيقظت فزعا من نومي.. تنهدت بارتياح لما أدركت أن هذا اللقاء كان مجرد حلم ليس إلا*». أما في قصة منامة القط تكون خطة هذا القط»الإنصراف قبل أن يتابع مشهدا مُنَوِّماً له*». وبما أن هرمس هو كاشف الأسرار أيضا نجد الأب في قصة « قراءة خاطئة» يُجَهِّز نفسه ليكشف لأفراد أسرته سرا من أسراره. وفي قصة»السر»نجد باكس يقول:» اعتموا تزداد حلما*»، أي ضعوا عمامة فوق رؤرسكم!

قبعة هيجل

يعرف الشخص بقبعته مثلما قال هيجل. الحوذي يعرف بقبعته والساحر في خيمة السيرك أيضا، أما قبعة قصص القاص محمد اكويندي فهي النوم. به تعرف هاته القصص. النوم يأتي بعد التعب: لقد أَنْهَيْتَ اليوم ويجب أن تستريح. غاب الأهل ويجب أن تنام طيلة الوقت. تجد أمامك يوم أحد طويل مثل نهر بدون مستقر، لذلك لا مخلص لك سوى النوم. لا أعمال لديك لتنهيها فتنام. لم تعد تخرج، فتنام. أنت محاصر من طرف النوم من كل جانب؛ لأن الوقت كله أبيض؛ الذباب أيضا لم يعد يطن مثلما في الأيام الخوالي؛ ولا آلام أضراس بعد الآن، لأنك تتناول باستمرار حبات»سورغام» التي اشتريتها بدون استشارة الطبيب؛ أصدقاء المقهى اختفوا واحداً تلو الآخر. لم تعد تريد حتى أن تشاهد النشرة الجوية تيمنا بأمك التي تدمن عليها أيما إدمان، بل التلفاز لم يعد يشتغل. لم ترد أن تذهب لتصليحه. أربعة خطوط أو بقع بيضاء مستطيلة حولته إلى ملعب تنس. إنه تلفاز نائم إذن. أصبح الآن يشبه ملعب تنس حقيقي. لكن اللاعبين متغيبون. لقد ناموا مثلك في أبهائهم. لقد أطلقوا العنان لسلاح النوم. فالنوم هو الآخر سلاح. هو سلاح ربما، ولكن سلاح ضد ماذا؟ إنه سلاح ضد التعب. الإنسان المعاصر متعب. إنه بدون سكينة. إنه بدون وقت للراحة تقريبا. فلا بأس أن ينام قليلا. لا بأس أن يجرب سريره الذي اشتراه عن بعد. إنها التقنية مرة أخرى، والتي تجعلك تتسوق عن بعد. كان التاجر الذي يجلس في غرفة مكيفة يغالب النوم، حينما أزعجته بمكالمتك الهاتفية. قلت له:»أريد سريرا صحيا» médicale». قال لك:» موجود! «. فالنوم هو السلاح. هو المرتع الذي يمكنك تجريبه دون أن تكون مضطرا أن تذهب إلى أي مكان آخر. فالمنزل ساحة صالحة للنوم. ليست غرفة النوم هي الوحيدة التي تنام فيها، بل تنام في الصالون أيضا، وأحيانا تنام فوق الكنبة الرمادية دون أن تنزع حذاءك. إذن فالنوم في قصص مجموعة القاص محمد اكويندي يحيل على هذا الترياق المعاصر. البطل الذي ينتصر هو ذلك الذي ينام، وتراوده أحلام ما. كل الأحلام جائزة، وتفي بالغرض. حينما تنتهي من حصة النوم تقرأ صفحة أو صفحتين من كتاب ابن سيرين أو أربع صفحات من كتاب سيجموند فرويد، واللذين يحملان نفس الإسم:»تفسير الأحلام» . تتذكر أن جدتك كانت تقول أن الأحلام يجب أن تروى بعد أن توضع قصعة من الماء أمام الراوي أي النائم. لذلك طيلة تجوالك بين قصص»غيلم زفزاف» كُنتَ تجد أصنافا كثيرة من النائمين. نُوَّمٌ كثر وأحلام شتى. ربما النوم هو الحل. هو خلاصة حياة عبارة عن حلبة سباق في مدينة يونانية. هو عباءة يلبسها المتعبون والمغلوبون على أمورهم ومتصيدو الأحلام والباحثون عن أوقات مستقطعة شبيهة بتلك التي تتخلل مباريات كرة السلة، حيث يتوقف اللاعبون عن اللعب لفترة من الزمن، قبل استئناف لعبهم. يجتمعون وأعينهم على سلة الخصم. فالنوم قبعة. لكن النوم يتم بطرق مختلفة أيضا. هناك النوم بأعين مفتوحة، وهناك النوم بأعين مغمضة، ونوم بوسادة أو بدونها، وأيضا نوم بسرير أو بدونه. وهو بذلك قبعة؛ كأن النائم يلبس قبعة هيجل. فالشخص يُعْرف بقبعته مثلما يقول هيجل. هكذا هو النائم دائما. عينه دائما على الحلم الذي تَعَدَّدَ وتَلَوَّنَ بألوان كثيرة في مجموعة القاص محمد اكويندي.

مطرقة نيتشه

سنستعير مطرقة نيتشه هاته المرة. هاته المطرقة الشهيرة التي استعملها لتَبَيُّنِ جذور النفس الإنسانية، أي التفكير بطريقة عميقة ومختلفة الى الحد الذي جعله يقوم بهدم القيم الفاسدة. أعتقد أن ما تدفعنا إلى التفكير فيه مجموعة القاص محمد اكويندي بعمق، وهذا هو دور القراءة بشكل خاص ودور الكتب بشكل عام، هو النوم. هي دفعة إلى الأمام نحو تأمل فعل النوم.
لكن لماذا لا نفكر في الأرق بداية؟ لماذا لا يستطيع الإنسان المعاصر النوم؟ إنه لا ينام. ينام تحت التخدير. ينام أحيانا حينما يستعمل أقراصا منومة. هذا يعني أن لديه خللا ما. هناك مشكلة ما. ثغرة يجب أن تضاف إلى الأفعال المحددة لكينونة المصاب بأرق مزمن، والذي يجد نفسه باستمرار عاجزا عن الخلود إلى النوم. هذا جزء من مطبات العصر التكنولوجي الذي يخيم بظلاله على الحياة الإنسانية المعاصرة . إنه بمثابة حجر عثرة في طريق الراغبين في النوم، أو الراغبين في التخلص من مخلفات اليومي الفاسدة.
ولكن ما النوم؟ إنه حالة من الإسترخاء، ليست بالغيبوبة، ولا تجسيدا لغياب الوعي. فالنائم يستطيع التجاوب مع بعض المؤثرات الخارجية، والنوم إما يكون خفيفا أو ثقيلا. كما أنه يكون طافحا بالأحلام. فمتى تبدأ الأحلام؟ الأحلام لا تبدأ إلا بعد مرور ساعة ونصف تقريبا من النوم.
يعتبر المفكر رايموند تانيين بأن النوم حالة ليست استثنائية، لكن هناك من الفلاسفة من يعتبر بأن النوم عدو لذود. أما نيتشه فيقول :»السعداء هم النائمون». كما أن الشاعر معروف الصافي يقول:»ما فاز إلا النُّوَّمُ». نجد أيضا ديكارت قد اعتبر النوم لا يمنع فعل التفكير. فنحن نستمر في التفكير حتى خلال النوم، على عكس جون لوك الذي قال بأن التفكير يصبح مستحيلا خلال النوم.
يجب الاتفاق أيضا بأنه لا يمكن أن نتحدث عن الأحلام دونما أن نتحدث عن سيجموند فرويد الذي يعتبر أن الأحلام هي الطريق الملكي نحو اللاشعور، وبما أن اللاشعور هو ما يشكل حقيقة الإنسان، فالأحلام تصبح هي حقيقته. فكي نفهم الإنسان يجب أن نتوجه مباشرة نحو أحلامه، إذ نجده يقول في مستهل كتابه:»تفسير الأحلام» :»إذا اصطنعنا هذا المنهج نكشف كل حلم، فإذا هو بناء نفس ذو معنى يمكن الربط بينه وبين مشاغل اليقظة في وقت معلوم» . هل كان هذا هو هدف قصص محمد اكويندي في مجموعته» غيلم زفزاف»؟ هل كان هدفها هو تخليصنا من شوائب اليومي ومن تبعاته كما سيشهد بذلك هيلد برانت القائل:»والعجيب أن هو أن الحلم لا يستند عناصره في العادة من أحداث النهار الجليلة المثيرة، ولا من مشاغله القوية القاهرة، بل من تفاصيل عارضة أو – إن جاز التعبير- من قصاصات معدومة القيمة تخلفت من الخبرات الحديثة أو من الماضي السحيق»؟!
هذا هو ديدن القاص محمد اكويندي في هاته المجموعة، إذ يحاول التقاط تفاصيل الهامش، وذكريات الماضي البعيد من خلال تجميعها في قصص يدخلها في فوهة ماكينة عملاقة تعمل على أسطرتها وإعطائها ذلك البعد السحري الذي لا غنى عنه بالنسبة للإنسان-القارئ في حياته.

هوامش:
* محمد اكويندي-غيلم زفزاف – دار سليكي إخوان – طنجة 2022


الكاتب : مصطفى النفيسي

  

بتاريخ : 12/05/2023