رن الهاتف ، كنت في الحمام مستمرئا الدوش الفاتر، تلففت بفوطة، شربت كوبا من محلول عشبة اللويزة، موطئا لنوم عميق بعد يوم مضن .
رنات الهاتف تزيد إلحاحا، أسرعت لكي أجيب، لكن قطعت صابون سائبة كادت أن تتسبب لي في خبطة زلقة مدوية، عرجت زاحفا وقد أحدثت السقطة رضوضا، الهاتف يضاعف الرنين.
انتهى إلى مسامعي صوت مواسيل معزيا :
ـ البركة في راسك ، أمك في ذمة الله !
صمت وقد أصبت بالخرس، يكرر الصوت منبها :
ـ الوالدة في رحمة الله .
تجمد الدم في عروقي، وأصابني هول الصدمة بالذهول، همهمت :
ـ ما..ت..ت.. ما ..ت..ت
ردت الممرضة متبرمة :
ـ بعد إخبارك دبر راســـك !
عقارب الساعة تزحف لما بعد منتصف الليل ؛ الحركة في العاصمة الرباط تقف مبكر ، الهدوء يغلف الأمكنة. طلبت من إدارة الفندق أن توفر لي سيارة أجرة، فتأخرت كثيرا، ذرعت البهو جيئة وذهابا، التوتر يكبس أنفاسي، أفكاري غرابيب سود تعشعش في دماغي. خرجت للشارع عسى أن أصادف وسيلة نقل للعيادة، حيث ترقد أمي رقدتها الأخيرة ، بعد حصة تصفية لكيليتين، الطويلة والمملة، من العادة أن ترافقها أختي البتول، ولكن البتول ـ الآن ـ نفساء بعد ولادة قيصرية تلزمها مطلق الحرية، سرت برودة في عظامي وطفقت أعطس حتى جف حلقي .
توقف طاكسي، لم يكن فارغا، رائحة فوارة تدل على وجود أنثى بكل بهاء زينتها وتبرجها ، راديو السيارة يتغنى « أنت عمري» ، والسائق الكهل يبدو منبسطا ومنسجما بالأحاديث الناعمة .
أشرت لصاحب سيارة الأجرة أن يوصلني إلى «الفردوس»، أومأ برأسه دون أن يلتفت إلي ، كان يخوض مع المرأة كلاما عن غدر النساء وغدر الرجال، السائق يرفع زمرة صوته كأنه يحتج :
ـ الرجل يمل العشرة الزوجية التي تطالها البرودة والفتور في الفراش ، ويحتاح إلى امرأة تستفز جري خيول الميدان وتشعره بنعرة الفحولة، العذاب كل العذاب أن تدب البرودة في فراشك ، مع امرأة خامدة ..
مججت الحديث المقرف، واستعجلت السائق الذي يتعمد البطء وإطالة الطريق مستطيبا ثرثرة المرأة الناعمة، والتي استلت من حقيبتها الجلدية سيجارة ونشأت تنفث فتائل الدخان باستلذاذ.
بلغ بي التوتر حدته، وهممت بالنزول ولكن أين أجد سيارة أجرة ـ آخرى ـ توصلني إلى العيادة، ترى كيف تموت أمي في هذه الليلة الباردة الممطرة وأنا في نفس المدينة دون أن أغلق عينيها وأمكنها من «حسوة» ما أو تمرة تكون آخر لذتها في الحياة ، أقبل يديها ورجليها، أقدامها جامدة تشوبها زرقة، إنه الموت وقساوة برودته. ما أوجع لوعة الرحيل، وأمك وسط سرير أبيض ورائحة الأدوية الزنخة تفغم أنفك .
قبل أن أصل إلى الفندق بوقت وجيز، كانت هادئة تبتسم بحب ، شدت أصابع يدي بحنان وهي ترتل صلوات وأدعية :
ـ الله يرضي عليك آولدي تهلا في أخواتك الموت والحياة بيد الله .
كنت أنا الذكر بين خمس بنات، عادة ما كنت آتي إلى هذه العيادة، حيث تنتظر دورها بغاية تصفية الكليتين، ولما ترتاح من عناء العملية، أرجعها في نفس اليوم إلى هناك ، بتلك القرية النائية النائمة على سفح جبل تدعى « تدانة « بين أربعاء الغرب ووزان، ولكن ـ هذه المرة ـ حصلت أعطاب تقنية وتم تأخير دورها ، وبقيت إلى جانبها سحابة النهار، الآلات تشتغل بإيقاعات رتيبة، والأطباء والممرضات ينتقلن حمائم بوزراتهن البيضاء والزرقاء. صاحب الطاكسي يتوقف، تدفع المرأة البدينة جسدها اللحيم بصعوبة خارج السيارة، يأبى السائق أن يتقبل منها كلفة التوصيلة، تملي عليه رقم هاتفها مشددة على ضرورة زيارتها، يرفع صندوق السيارة يسلمها حقيبة تجرها وهي تتخاتل بتوأدة وغنج .
ثم مافتئ أن نظر إلي كما لو أنه يراني لأول مرة، قلبي يكاد أن ينط من قفص صدري، ودمعة عصية تأبى أن تنزل .
ـ إلى أين يا أخ !
يقول السائق :
ـ عيادة الفردوس !
أجبت متوترا، صعق صاحب سيارة الأجرة، وخبط يده على جبهته موضحا :
ـ حسبتك تقول حانة الفردوس وأن تقصد عيادة الفردوس !
ـ أمي ماتت !
ـ الله .. الله.. الله.. إنا لله وإنا إليه راجعون
داس على دواسة البنزين وانطلق قذيفة ..
العيادة فارغة إلا من آهة هنا وسعلة هناك، ألفيت والدتي موردة الخدين كأنها في غفوة عابرة ، انشددت إلى وجهها الملائكي، أخذت يدها بين كفي، وشرعت أقرأ ما أحفظ من سور القرآن متمليا وجهها :
ـ هكذا ترحلين في هذه الليلة الليلاء .
كان علي أن أنتهي من إجراءات إدارية تتمثل في تقرير الوفاة وتصريح الدفن، وترتيبات نقل الجثمان، وقبل هذا وذاك، لابد من أداء أتعاب العيادة وكلفة التطبيب، وأنا حاليا لا أتوفر على سيولة تمكنني من الأداء الفوري، لا أحمل عدا دفتر الشيكات، ينبهني عمال المستشفى بأن سيارة الإسعاف لا تتحرك بجثث ميت، وعلي أن أتصل فورا بشركة نقل الأموات، وليس في مصلحة العيادة أن تبقى الجثة مدة طويلة .
النهار يتمدد تدريجيا، أمين الصندوق بالعيادة، أصر على أن أدفع تكاليف السابق واللاحق دفعة واحدة، ولن يسمح بدرهم واحد، توسط الدكتور المداوم ليجد مناصا، نشرت دفتر الشيكات وعبأت الدفعات مقسطة على شهور معلومة .
اتصلت بالشركة. أتى السائق مسربلا بجلباب مقلم بالأبيض والأسود متثائبا يكاد أن ينام واقفا .
تجندت العيادة متخلصة من جثة ميتة في أقرب وقت، متحاشية انتشار النبأ بين المرضى والمعايدين .
سجيت أمي داخل سيارة نقل الموتى وأحكمت إغلاق عينيها إلى الأبد ، لا تنظر إلى الفراغ وإنما لأضواء نوارنية تأتي من هناك .
جراح الفراق تتسع مع مرور الوقت والسيارة العجلى تطوي الطريق وماسح الزجاج يجلي الرؤية برقصته المتواترة. يمسك السائق بين الأونة والأخرى بخرقة ويمسح بجدية ونرفزة .
غادرنا مدينة الرباط، الصمت ران بيني وبين السائق، وعمدت إلى أن أشد اهتمامه ويقظته بالكلام حتى لا ينتابه سهو غفلة وشرود .
فما عتم أن أطلق تسجيلا صوتيا:
ـ ياسين .والقرآن الكريم .إنك لن المرسلين .على صراط مستقيم (…)
مضت علينا لحظات ثقيلة وهسيس العجلات يرتفع ويلامس الإسمنت، سرعان ما ترنحت السيارة، صرخت في السائق :
ـ سبحان الله .. سبحان الله .. أراك نعست !
حوقل وبسمل وذكر الله ثم عاد لتشغيل لجهاز بتلاوة القرآن :
ـ تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير (…)
سيارة من الجهة المقابلة تقبل بسرعة، السائق يراوغ ويفرمل فجأة ، متلافيا واقعة الصدام ، اندلق من السيارة الصغيرة شبان وإناث في عمر الزهور وبين أيديهم « كانيطات « جعة، صاحوا وهم يرفعون عقيرتهم :
ـ كدت أن تقتلنا يا معلم !
لما انتبهوا بأن السيارة سيارة نقل أموات، وقد حجبت الظلمة السائدة عبارات خطت بخطوط خضراء مرقوشة على السيارة، انتابتهم قشعريرة ولحظة صمت ثقيل وانسحبوا واجمين .
توقفنا عند إحدى المحطات، احتسينا قهوة سادة ، وصلنا عند تهاليل الفجر وتفتق أول خيوط الصباح، نساء الدوار المكلومات يستقبلن الجثة بالنواح والبكاء، وفقيه القرية يصيح في وجوه النساء حتى يتوقفن عن الندب وصفع الوجوه والخبط على الأفخاذ، ملأ المكان حفظة القرآن فجلجلوا المكان بأصوات تعلو وتخفت، جاء وقت الضحى وعقبه وقت الظهر، فنودي لصلاة جنازة :
ـ جنازة امرأة
بعد الدفن، شعرت بفراغ يتسلقني، وقد بقي شيء من أغراض والدتي في جيبي، وإذا هو منديل أبيض،وهو هديتي لها عند أول أجر تلقيته في وظيفتي، كانت تتلحف به في الأعياد والأعراس والمواسم والحفلات الكبرى، بسطته في يدي ، وخضتني رعشة بكاء، مسحت دمعي بالمنديل وأنا أستقرئ وجه أمي الذي توارى في التراب ..