ثقافة المدينة: عوائق الرهان والبدائل الاستراتيجية للتنمية
تشكل الثقافة في بناء المجتمعات والنهوض بها مدخلا رئيسا للتنمية، فهي معيار واقعي لقياس التقدم والتحضر والاستشراف والتغيير والتحديث، فكل تفاعل واهتمام بالشأن الثقافي مقابل كل إلغاء أو إهمال يبقى مرآة واقعية تعكس قيمة الثقافة في الذهنيات والمسؤوليات والممارسات، كما تكتسي المسألة الثقافية في العصر الراهن، وفي كل أرجاء المعمورة أهمية عظمى في التنمية المستدامة.
فالاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية من الأحزاب الوطنية التي ظلت وما فتئت ترافع مرافعة مستميتة ذات رؤية مستقبلية تعتمد على الرهان الثقافي الاستراتيجي المؤسس على التشبث بالحداثة والديمقراطية والعقلانية والتنويرية وما شابه ذلك من مكونات تحديث المجتمع المغربي والنهوض بآليات تنمية تفكيره وواقعه السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
تأسيسا على ماسبق، يأتي المؤتمر الإقليمي بوجدة ليضع الرهان الثقافي ضمن الأولويات الضرورية التي هي في حاجة إلى الانتباه والاهتمام والتقويم والمراجعة، حيث كانت تتبوأ الثقافة بالمدينة وكما يشهد لها التاريخ المغربي بذلك مكانة مجتمعية أسهمت هي الأخرى في بناء صرح الذاكرة الوطنية والمغاربية والإفريقية والدولية، حيث كانت الثقافة جسرا تواصليا وتنمويا بين كل الفئات المغربية بجهة الشرق من جهة، وبين كل الفئات المغاربية والإفريقية والدولية من جهة أخرى وبالأخص سنوات الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين.
نعم، إن الرهان الثقافي بالمدينة مرتبط ارتباطا مباشرا بالتحولات الجيو -سياسية والسوسيو اقتصادية لا محالة في ذلك، لكن حزب الاتحاد الاشتراكي بالمدينة يرى بعين ثاقبة تقترب من الأوضاع الثقافية المتردية أن هناك عوائق واقعية داخلية تقف في وجه النهوض بالشأن الثقافي بالمدينةالتي هي الفضاء الطبيعي لإنتاج المعرفة وتنمية الإنسان، إذ لا تنمية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية دون تنمية ثقافية، على الرغم من وجود البنيات التحتية التي تم تشييدها في العقدين الأخيرين من مرافق وفضاءات للتنشيط والترفيه والإشعاع.
فأول عائق يلاحظه المواطنون يتجلى في غياب الاهتمام بالتنمية الثقافية الهادفة في مشاريع الهيئات والمجالس المنتخبة، الأمر الذي جعل معظم الشباب بالمدينة يقترب من الفقر الثقافي، الذي يعد سببا مباشرا في نشر آفات التطرف والعنف، إضافة إلى عدم إدراج خاصية التشجيع في الاستثمار الاقتصادي المتعلق بتكوين الشباب على ولوج عالم المقاولات الثقافية التي تبقى المدينة في حاجة ماسة إليها، وكذلك نظرا لأدوار المقاولة الطلائعية في تنمية واقع الصناعات الثقافية عبر العمل على ربط المجال الثقافي بمأسسة وتقنين “ المقاولة الثقافية” اقتصاديا، بوصفها سبيلا ناجعا من سبل البحث عن التشغيل بالنسبة إلى شباب المدينة. ثاني عائق، خفوت صوت الحركة الجمعوية المهتمة بالشأن الثقافي المتأثر دون شك بتقليص ميزانيات دعم تلك الجمعية، مع العلم أن دينامية العمل الجمعوي في تنمية عجلة الاقتصاد الثقافي ضروري ومؤكد في كل رهان استراتيجي يسعى إلى بناء المجتمع وتنميته. والعائق الثالث يتعلق بتهميش وظائف المثقف الحداثي الديمقراطي في تدبير شؤون المدينة ثقافيا، ذلك بعدم استطلاع رأيه واعتبار شخصيته الرمزية بشكل شفاف وظاهر للعيان في التسيير والتداول والحوار وتبادل الآراء وتقديم المقترحات في وضع البرامج الثقافية والفنية ذات التظاهرات الكبرى مثل المعارض والمهرجانات والمؤتمرات والملتقيات، وفي العمل معه بالمقاربة التشاركية المنصوص عليها دستوريا.
فالاتحاد الاشتراكي يراهن على ضرورة حضور صوت المثقفين الجادين في المدينة، ليس بمنطق العبور المعهود في كل ما هو رسمي، أو ما نسميه “ مثقف ميكروفون خمس دقائق”، وإنما بثقافة سيرورة الاعتراف بوظائفه داخل المدينة. أما العائق الرابع، فيتمظهر في عدم استحضار المغرب المتعدد في اللغات والثقافات والهويات، فعلى مستوى الانشغال بسؤال التنمية اللغوية الوطنية، هناك غياب تام للورش اللغوي الأمازيغي في الخطاب الإشهاري والمؤسساتي داخل المدينة، وعدم الاهتمام بالتراث الأمازيغي، الذي يعد مكونا مهما من مكونات التراث غير المادي داخل النسق التراثي الوطني.فلا بد من تشجيع الفنانين المهتمين بالثقافة الشعبية بالمعنى النوعي المعرفي واللغوي والاجتماعي في كل الفضاءات الحضرية ذات الاستقطاب السياحي والرأسمال البشري في المدينة. في هذا السياق، لا بد من التفكير في إرساء ميثاق المدينة الثقافي من أجل حماية الثقافة والفنون الشعبية الهادفة وتطويرها بعيدا عن تصور شعبوي ضيق وعن كل تعصب غير مثمر.
إن الرهان الثقافي استراتيجية ذات رؤية محلية وجهوية ووطنية ودولية، تحتاج إلى مسؤولية مؤسساتية رسمية تحمل مشروعا محكما في التدبير والتسيير، يعمل على نشر دينامية فعالة تبرز في الحياة المجتمعية بشكل واضح ومؤثر، وليس بشكل عشوائي غامض ينزع إلى ذاتية ضيقة تسهم في الحط من قيمة هذا الرهان. والرسالة موجهة إلى المسؤولين مباشرة عن تدبير الشأن الثقافي وتسيير شؤونه بالمدينة، حيث يلاحظ المتتبع بوجدة الغياب التام للمشاريع المؤسساتية التابعة للدولة قصد النهوض بقطاع الثقافة، مثل تشجيع نشر الكتاب ودعمه في المدينة، تخصيص ميزانية لهذا النشر والدعم، رد الاعتبار المادي والرمزي للمثقف والفنان، وتمتيعهم بوضع اعتباري يناسب ما يقومون به من أدوار ثقافية وفنية خدمة للمدينة، خاصة الذين لم تساعدهم الظروف الاجتماعية على تحسين أوضاعهم وبالتالي إيجاد شروط ملائمة للإبداع والابتكار، المرافعة على مشاركة مثقفي المدينة في التمثيلية الوطنية داخل المغرب وخارجه، نتيجة حضوره القوي في الثقافة الوطنية والمغاربية والعربية والدولية . فلا بد من إيجاد موقع اجتماعي مناسب للمثقف والفنان، فالرفع من القيمة الاجتماعية لهما دليل ساطع على الوعي التنموي للحكامة الجيدة التي تراعي وظائف المثقف والفنان المتعددة منها وظيفة تحريك الفكر التنويري الممانع لكل أشكال التطرف والعنف ووظيفة التعريف بقيمة الإبداع في بناء حضارة التمدن ووظيفة تنمية المغرب الثقافي على المستوى الدبلوماسي والمستوى المجتمعي محليا وجهويا ووطنيا وقطريا ودوليا.
ومن أجل تجاوز هذه العوائق، يدعو المؤتمر الإقليمي إلى تنظيم مناظرة محلية تنبني على المقاربة التشاركية بين كل مؤسسات الدولة المعنية بالقطاع الثقافي وغير المعنية وبين المنظمات المدنية الثقافية في التقويم الملموس للمشهد الثقافي والفني بالمدينة، وذلك بغرض وضع مخطط إقليمي متوسط المدى يسهم في الرفع من قيمة الثقافة داخل السياسات العمومية والاستراتيجيات الكبرى المرتبطة بأي مشروع جهوي تنموي جديد يربط كل الرهانات الممكنة برهان إدماج الثقافة في الحيوات المجتمعية، فالربط بين الاقتصاد الجهوي والرأسمال الثقافي يعتبر رأسمالا ماديا ورمزيا، من نتائجه الأولى ترسيخ الأمن الثقافي والاجتماعي إلى جانب الأمن الديني ذي الاهتمام الملحوظ،ذلك بأن الأمن الحقيقي في أي فضاء مجالي هو الأمن الثقافي، وكذلك قصد رصد وجَرْد مؤهلات المدينة الثقافية والفنية عبر تقديم دراسات وأبحاث إحصائية دقيقة لكل البنيات التحيتية والتصورات العلمية الدقيقة للإشكاليات الكبرى المستنبطة من النسق الثقافي للمدينة ( المكتبات- المتاحف- النشر والكتاب- المقاولات الثقافية- الاستحقاقات الإبداعية والفنية- الاختراعات والابتكارات ذات العلاقة بالصناعات الثقافية- الحكامة الجيدة في التدبير والتسيير…)، وبالتالي السعي إلى إبراز منطق الخصوصية الدينامية الثقافية للمدينة من أجل دفع الساكنة والمواطنين إلى تطوير الآليات والمعارف والخبرات لدى الساكنة، المنفتحة على ما هو وطني ومغاربي وإفريقي ومتوسطي .كما لا يمكن التعامل مع ساكنة المدينة بوصفهم مجتمعا استهلاكيا لثقافة اقتصادية هجينة ولثقافة عابرة تتأسس على الرداءة والتفاهة ليس إلا، بل لا بد من استحضار ثقافة التحديث والتنوير والتقدم التي يشهد لها تاريخ هذا المجتمع.
إن المدينة التي توجد على التخوم تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضىإلى مقاربات سوسيو ثقافية تقف سدا منيعا في مواجهة كل ما من شأنه أن يؤثر بشكل سلبي في حيوات المواطنين والمواطنات فمن هذه الرؤية الاستراتيجية ينتصر المؤتمر الإقليمي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بوجدة إلى شعار ضرورة الانشغال بالسؤال الثقافي على المستويات جميعها من أجل بناء مجتمع مغربي حداثي ديمقراطي تتوافر فيه شروط المواطنة والوطنية والقطرية المتعددة الأجناس واللغات والثقافات.
وجدة مدينة مغاربية بامتياز
لقد عملت الجغرافيا وكرس ذلك التاريخ، على أن تكون وجدة مدينة مغاربية بامتياز …لا يمكن للمغرب أن يندمج في محيطه المغاربي بدون تنميتها وتمكينها من القيام بوظيفة الربط والتواصل، التي هي من صميم مصيرها وقدرها …إن المغرب الكبير بقدر ما يمثل لسكان وجدة أحد مستويات الانتماء الحاسمة على الصعيد العاطفي والوجداني، بقدر ما يشكل أحد المداخل الأساسية والطبيعية للانخراط في الهندسة الجديدة للأوضاع الدولية كما تشكل اليوم، وهو بالنسبة لوجدة رهان حقيقي يجب استنهاض كل الوسائل في سبيل كسبه .
إن الموقع الاستراتيجي لوجدة، لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار خاصيتها المتوسطية المنفتحة، سواء في علاقتها مع جيراننا في الجنوب الأوربي، أو في امتداداتها الاستراتيجية نحو الشقيقة الجزائر وباقي أشقائنا في دول المغرب الكبير، الأمر الذي يحتم استثمار هذا المعطى الاستراتيجي بما يجعل من هذه المنطقة نافذة للتقارب وجوا للاتصال والتواصل، على مستوى تمتين بناء آليات المغرب الكبير…
وهنا نتذكر، ونذكر أشقاءنا الجزائريين، بدعم الشعب المغربي لهم والتضحيات التي قدمها دعما للثورة التي عاش كل مراحل صراعها منذ ثورة الأمير عبد القادر ووصولا إلى ثورة الفاتح من نونبر 1954، لقد كان الشعب المغربي ولا سيما سكان وجدة وجهة الشرق عموما، جزءا لا يتجزأ من الثورة الجزائرية، وكان دوما إلى جانب أشقائه في الجزائر في كل المراحل الصعبة من حياتهم، كما أن مدينة وجدة كانت النموذج الحي طوال قرن من الزمن على هذا الدعم، فقد وقف سكانها مع الثوار وكان رجالاتها خيوط الربط بين الحركة النقابية والسياسية والحركة الوطنية في بلادنا…
وعلينا أن نتذكر اللحظة التاريخية التي طرح فيها الرئيس شارل دوغول تقسيم الجزائر وفصل صحرائها عنها، وكيف رفض المغرب خطة يمكنها أن تضعف من احتمال استرجاع الجزائر لاستقلالها وسيادتها على مجموع ترابها، ولهذا لا يمكن للمغرب أن يقبل موقف حكام الجزائر من وحدتنا الترابية، ونؤكد لأشقائنا في الجزائر بأنه الآن بدأت بوادر حل سياسي، فمن الحكمة والتعقل أن يقف حكام الجزائر موقفا إيجابيا، وعلى المواطنين أن يدفعوا في هذا الاتجاه ..
لقد أصبح التنسيق بين الدول المغاربية ضرورة تفرضها وحدة المصير المشترك وأهمية التكامل والاندماج المغاربي، فالتنسيق البناء وحده كفيل بأن يجنب دول المغرب النهاية المأساوية التي آلت إليها الكثير من الدول، ومن هنا نقول لأشقائنا الجزائريين بأن لا تنمية ولا تقدم لكم إلا بالتنسيق مع أشقائكم المغاربة، من هنا وجب التنسيق والمساهمة الفعلية والجادة في بناء مشروع المغرب الكبير لإخراجه من الجمود الذي يصل مؤهلاته ويعطل قدراته …
إن الشعب المغربي وحدوي، ظل دائما يضع الوحدة الوطنية والوحدة المغاربية فوق كل اعتبار، لهذا السبب فإننا نحرص على التأكيد على أهمية الاختيار السياسي كاختبار استراتيجي ومصيري، إنه اختيار لا يقبل، في نظرنا، المساومة بأي شكل من الأشكال. لقد مارس المغرب وطنية مفتوحة ومنفتحة على مختلف المكونات والجبهات والاختيارات التي تمنحها القوة، وقد ظل أفقنا في الفكر وفي الممارسة السياسية مشغولا بالأفق المغاربي، أفق الوحدة والتضامن، أفق البناء الديموقراطي، الذي يمنح للجميع إمكانية الفعل والمشاركة وبناء عناصر القوة الاقتصادية والسياسية المتكاملة …
إننا، وما زلنا دائما، نرى أن المغرب الكبير هو الفضاء الطبيعي والتاريخي والمساعد، الأكثر ملاءمة لحل إشكالات حاضرنا العالقة، وعلى مختلف الأصعدة والمستويات، وذلك بما يضمن تدارك أخطائنا وأشكال الخلل المحيطة بنا، من أجل تنمية بلداننا وجعلها في مستوى المنافسة الاقتصادية التي تتطلبها التحولات الاقتصادية الكبرى الجارية في العالم …
إن المغرب أبان غير ما مرة على أنه بلد الحوار ونبذ التفرقة والعنف…وهو حين اختار هذا السلوك الحضاري الرفيع، فلأنه يراهن على الغد، عبر طي صفحة المآسي بعقلية منفتحة وواعية برهاناتها المستقبلية، لا بعقلية الماضي المطمئنة إلى اللحظة التاريخية الثابتة، هذه العقلية التي تقف في تحد غير مفهوم، أمام مشروع الوحدة المغاربية، ذلك الأفق المشترك الذي ما زلنا نحلم به…