من أين تأتي القصص؟

بعد الجملة الأولى، لا يقدم التخطيط القصصي للخطوة التالية أي ارتياح، بصرف النظر عن تفكيرنا الدائم في ما سيأتي. إننا لا نتسوق القصص، ولا نقيس كلماتها أو جملها أو صفحاتها. كل ما نفعله هو الجلوس لحل المشكلة برفقة ذلك الشعور الكثيف بأنك تريد أن تكتب قصة مختلفة من رأسك، وليس من رأس القصص الأخرى التي قرأتها. غير أن البداية ليست مشكلة زائفة. البداية هي القصة، فإن استطعت أن تعثر على بداية جيدة، فإن كل الصعاب الأخرى تذل لك رقابها. كل ما عليك فعله هو أن تتجنب النقلات السيئة. ذلك أن البداية تتيح دائما إمكانية مغادرتها برشاقة، بل تتيح لك إمكانية الرقص مع الجمل والأشياء والأماكن والشخصيات. كل ما عليك فعله هو أن تبحث عن النظام المناسب، أي أن تتجنب قدر الإمكان تضييق احتمالات القفز، وأن تومئ بدل أن تتكلم، وأن تجعل السرد يتكئ أساسا على الفخاخ التي تدسها برشاقة في النص.
ليس مطلوبا منك أن يكون سردك وقورا أو راشدا. عليك فقط أن تنشئ لعبة، أو أن تبتكر خارطة سردية تزرع فيها مدنك وغاباتك وجبالك وأنهارك، وأن تفرق عليها الضوء قبل أن تختار الشيء الذي يلائم مزاج قصتك. الضوء هو الإسناد السري لما تريد أن تقصه، كما أن «النقض» هو التشويه العفوي لكل ما قرأته أو شاهدته أو تخيلته أو حلمت به. هذا هو السبيل الوحيد لحماية القصة من الأذى.
إذا لم تستحوذ عليك فكرة النقض والطمس والإتلاف، فانتظر أن يكون لذلك آثار سلبية على القصة. لن تكتب عندئذ إلا «الأرشيف». مجرد ترجمة للأصلي لا خداع فيها ولا مرونة، بينما الكتابة تنبني أساسا على الخداع، على نوع من نزال «طمس المرجعيات» بين القاص وقارئه. عليك أن تطفئ الأضواء لتترك للقارئ فرصة صناعة النجوم والأضواء. اخترع الليل، واترك خصمك يجهد نفسه لصنع النهار.
حماية القصة من الأذى، تأتي، أيضا، من العناية المطلقة بالأشياء الضئيلة والبقايا والتذكارات الميكروسكوبية. لكل هذه الأشياء خلفية موسيقية لا ترى، وينبغي عليك أن تؤمن بأنك بحاجة إليها، وأن قصتك لن تنجح، وستظل مخبولة، ما لم تسر معها في الاتجاه الذي تقودك إليه. لا مجال لإهمال أي تفصيل، ولا أي تقاطع، مهما كان صغيرا، مع تلك الإسنادات.
قد يقول قائل إن القصة تأتي من المسارات الحكائية التي تمنحها لنا الحياة، حتى إن كانت حلما أو خيالا أو توهما. غير أنها تأتي، في واقع الأمر، من ترحيب ما، قد يكون جملة أنيقة أو لقطة قوية، أو من خربشة على جدار ما تتوقع أنه استثنائي. وتبعا لذلك، فإن الصدفة تلعب دورا مهما في أي لقاء مع القصة. إنها إشارة وقتية تمنحك شرارة خاصة للشروع في كتابة النص الذي يلح عليك، وتبقيك على اتصال بالجملة الأولى، من خلال القفز على الالتواءات الحكائية التي تحاول الإفلات منها. الأصل في القصة هو جملتها الأولى بوصفها المكان الذي يتركز فيه حمضها النووي ونبرتها الأساسية.
فالقاص الذي ينتقل من جملة إلى جملة، كما يجدر به أن يفعل، يدرك أن «وضوح الوجهة» تحتم عليه امتلاك استراتيجية للوصول. ليس لزاما عليه أن يصل بسرعة، بل أن يخلق ألفة مع مفاجآت الطريق. والأكثر من ذلك أن يبتكر طرقا جديدة تسمح له بالتراجع متى أراد ذلك، وأن يستمر في ابتكارها ما لم يصل، لأن الإحساس بالوصول هو الجزء الأصعب، لأنه المكان الذي لا تغادره القصة دون أي تأمين على أنه المكان الصحيح.
لا أحد في العمق يعرف من أين تأتي القصص. ربما من أماكن مختلفة. هذا ممكن جدا، والأرجح أنها محجوزة في مساحة جرى تأطيرها سلفا. القصص لا تأتي، بل تظهر على أوجه مختلفة. والقاص حين يظفر بها يعرف أكثر من غيره أنها كانت هنا دائما، وأنه يساعدها فقط على الظهور. كما يعرف أن الإظهار لا يتأتى إلا بالطمس. هذا هو منفذ التهوية الوحيد الذي بوسعه أن يبدد ثقة القارئ في مرجعياته النصية، وهذا ما يبرر أن البناء القصصي تركيب فني وتنظيم إيقاعي للعشوائيات. ألم يقل الجاحظ إن المعاني مطروحة في الطريق؟
إن ما يجعل من المعاني قصصا، وفق هذا الفهم، هو التركيب (النظم)، ولا شيء غيره. وتبعا لذلك، فإن الإمساك بالحكاية (المادة القصصية) لن يتحقق، قصصيا، إلا بالإمساك بلغتها وحبكتها وتطوراتها السردية، بل أيضا بتثغيراتها وتشققاتها. القصة صورة كلية لها أبعاد تتجاوز الحكاية المجردة. فليس للحكاية شكل واحد، وليس لها لغة واحدة، كما أن كل حكاية بوصفها مادة خارج اللغة تحتمل التدوير والتحويل وإخلاف التوقع، والانهماك في جولات محمومة في قلب الممكن القصصي. حكاية واحدة يمكنها أن تلد قصصا كثيرة تختلف باختلاف كاتبها ومدى تمكنه من أدواته. ولهذا فالحكاية شيء مثل بقية الأشياء القصصية، وينبغي التعامل معها بوصفها مجموعة عشوائية من المسارات التحسينية والمنحنيات التراجعية ينبغي أن تستجيب لنظام سردي ما. لا تختلف الحكاية (أ) عن أي الحكاية (باء) إلا حين تخضع لهذا النظام أو ذاك. وهذا يعني أن الحكايات، كل الحكايات، كفيفة ولا تعرف طريقها إلا إذا خضعت للمنطق الجوال والضروري للسرد.
هل معنى ذلك أن القصة منطقة هائلة خطرة؟ وإذا كان الأمر كذلك، من أين تستمد خطورتها؟ هل من قدرتها على إخفاء ما تحمله من فخاخ ومتاهات، أم من لأنها جائعة دائما إلى تلقي إمدادات تقنية أخرى غير المادة التي تتدفق باستمرار ما أن نعثر على جملتنا الأولى، أم لأنها تقوم على اللاتوقع؟
يقول بول أوستر في «كتاب الأوهام»: «هكذا يكون دائما الحال مع القصص. في لحظة لا يكون هناك أي شيء. وفي اللحظة التالية تظهر، وتراها جالسة إلى جوارك مباشرة». غير أنها لا تظهر دفعة واحدة، بل تظهر متسلسلة، إذ أن كل جملة تبحث عن جملة أخرى ترتبط بها ليحدث شيء ما، وما أن يحدث ذلك الشيء حتى يتمسك بشيء آخر. سلسلة من اللاتوقعات المنطقية تنظر خلفها وأمامها باستمرار كي لا تبدو غريبة أو منفصلة عن سياق المادة، وهذا ما نسميه الحبكة. لا يمكنك الكتابة دون الالتفات إلى الخلف، ودون النظر إلى ما يخبئه الأمام. سباق مستمر مع الشيء واحتمالاته. اختيار لما سيأتي وما سيعقبه، والسير على ذلك إلى أن يبدو وجه النهاية (ما نتوهم أنه نهاية) أليفا. نوع من الانفصال الذي لا يبرره سوى الإشباع السردي، أو التعرض لخطر تلاشي الدافع.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 08/11/2024