لا أحد يجادل في أن من بين المفاهيم الفكرية والسياسية التي حركت المجتمعات الغريبة في اتجاه ثورات متعاقبة لا زلنا نشاهد ألوانا منها في القرن 21 هو مفهوم الحقوق الأنطولوجية والفردية للإنسان؛ هذا الكائن الفريد من نوعه الذي يختلف عن كل الكائنات الموجودة على وجه البسيطة من حيث العقل والقوام الجسدي والقدرات ألا متناهية على التفكير والإبداع والتخطيط.
فبروز هذا المفهوم على الساحة الفكرية والثقافية والسياسية الأوروبية خلال مرحلة النهضة وعصر الأنوار وانتشاره لاحقا بين غالبية الأفراد والجماعات كان وراء خلق طفرة إبستمولوجية وعقائدية أدت إلى قطيعة مع ماض وتاريخ كان فيه الفرد يسكن مراحل ثانوية خلف المؤسسات الدينية والسياسية والمجتمعية التي كانت تحكم وجوده على الأرض. فقد كان الفرد في تلك الفترة ما قبل عصر الأنوار كائنا مخلوقا أحدتثه الآلهة أو قوة غيبية حددت الغاية من وجوده وسطرت له في نصوص مقدسة كيفية الاعتراف بحقيقة خلقه وكذلك السياسات التي يجب عليه اتباعها لإرضاء تلك الآلهة كي ينال رضاها ويحضى بالجنة في نهاية مصاره على هذه الأرض. ولكن هذا الوعي سيتغير مع تطور المجتمعات وظهور الفكر العقلاني الذي عارض المعتقدات الدينية السابقة على أنها جملة من الخرافات، ووضع نفسه في مركز الكون بدلا من الآلهة.
ومن خلال مراجعة النظام الفكري الذي كان يحدد علاقة هذا الإنسان الفرد مع الآلهة التي آمن بأنها خلقته وأوجدته في هذا العالم (بابلية، فرعونية، هيلينية، رومانية، يهودية، مسيحية، إلخ …)، برزت نظريات أخرى كمراجعة لعلاقة الإنسان مع الكائنات الأخرى ومنها الحيوانات.
فأصبحت علاقة الإنسان بالحيوان تخضع لتفسيرات معقدة من أجل عقلنة وشرعنة استغلال الإنسان للحيوان كأنيس أحيانا أو كمساعد في الأعمال الشاقة أو أحيانا أخرى كمصدر للأكل والعيش أو كأداة للتسلية يصطاد، ويذبح، ويسلخ ويوظف في مختبرات البحث والتشريح وذلك غالبا بدون مبالات للآلام التي يمكن أن يحس بها هذا الكائن المستضعف. كما أبرزت التطورات المتلاحقة أن السياسات الحقوقية لم تكن لتنطبق على كل الأفراد وخصوصا بعد ظهور العبودية والرق والاستعمار وألوانا أخرى من الاستغلال للإنسان مما وضع أكثر من علامة استفهام أمام كلمتي “حقوق الإنسان”.
النظرة الكلاسيكية القديمة للحيوان:
في الثقافة الهيلينية والأوروبية القديمة، كانت صورة ومكانة الحيوان في الكون خاضعة لتراتبية حددتها النصوص الدينية المتبعة. فكما يذكر الإنجيل في افتتاحيته (“صورة الخلق” 1:26): “وقال الإلاه دعونا نجعل الإنسان على صورتنا، في شبهنا، وليمنح السيطرة على أسماك البحر وطيور السماء والماشية، وعلى كل الأرض وكل الأشياء الزاحفة على الأرض …” وبعد ذلك أسست هذه النظرة التراتبية للإنسان والحيوان لأخلاقيات التعامل مع الحيوانات في الثقافة الغربية المسيحية التي تطورت إلى غاية عصر الأنوار .
وقد بنى المنظرون المسيحيون، مثل الأسقف طوماس أكواينس (الأقويني) نظريتهم المسيحية حول علاقة الإنسان بالحيوان على هذه النظرة الإنجيلية، بحيث يقول أكواينَسْ: “لا يهم كيف يتصرف الإنسان تجاه الحيوانات، لأن الإلاه أخضع كل شيء لقوة الإنسان …” (“الخلاصة اللاهوتية” Summa Theologica).
وإذا رجعنا قليلا إلى الوراء، أي قبل ظهور المسيحية حوالي 350 ق.م، فإن أرسطو الإغريقي في كتابه “حول الروح”، أكد على “أن النباتات وجدت من أجل الحيوانات، وأن الحيوانات الوحشية وجدت من أجل الإنسان …” كان النموذج الأرسطي الذي بناه على القانون الطبيعي مهيمنا على الفكر الأوروبي الى غاية القرن السادس عشر، وعصر النهضة حين رفض الفلاسفة الراديكاليون والمتنورون هذه النظرة القديمة للعالم. كان هذا القانون الطبيعي الأرسطي هو الذي تم تبنيه لإضفاء الشرعية على التفوق الأوروبي على الهنود الحمر والسود والآسيويين في استعمارهم واستعبادهم. وقد صنف أرسطو البشر في فئات مختلفة بناءً على قدراتهم العقلانية. في الطبقة العليا يوجد السيد (الفيلسوف). إنه مجهز بالعنصر الحاكم، وهو ما يسميه أرسطو العنصر التداولي. لديه فضيلة وهي كمالية الشخصية ، وهي الصفة المثالية التي تمنحها الطبيعة ، وهي أعلى مرتبة في الإنسانية. وقض اضفى ُمنظرو الاستعمار هذه الخصوصية للإسبان والبرتغاليين ، ولاحقا للإنجليز وكل البيض ذوو الأصول الأوروبية. ويمكنه أن يقرر ما هو عادل أوغير عادل ويحكم وفقًا لذلك. ويُعتبر جميع السادة متساوين فيما بينهم ولهم الحق في أن يَحكموا وأن يُحكموا بدورهم. في المستوى التالي النساء. إنهن عقلانيات تمامًا ولكنهن يفتقرن ، وفقًا لأرسطو ، إلى القدرة على القيادة ، مما يعني أنهن ليس لديهن القدرة على الحكم. ويتبعهم الأطفال الذين ليس لديهم العنصر التداولي ،و لكنهم سيكتسبونه مع الوقت والتعليم. وفي الدرج الأخير نجد العبد الطبيعي الذي ولد عبدا وسيبقى عبدا الى الأبد. العبد الطبيعي يفتقر إلى العقل وبذلك يكون طبيعيا أن يحكمه السيد الأعلى. وتبعا لذلك ، طور الخطاب الاستعماري آنذاك نظريات تنفد هذا الانمودج الأرسطي على الواقع وتقول بأن الهنود الأمريكيين أو السود أو الآسيويين (الانسان الغير أوروبي عموما) يفتقرون إلى العقل وصفات الانسانية الكاملة، وبالتالي يولدون عبيدا مدى الحياة. أما الحيوان فيأتي في المريبة الأسفل.
ومن بين الفلاسفة الأوائل الذين انتقدوا بشدة هذه النظرة للإنسان وخصوصا الإنسان الغير اوروبي نذكر ميشال دي مونتاين الذي قلب الأنموذج الارسطي واعتبر شعب الهنود الأمريكيين أفضل خصالا من الشعب الاوروبي: في انتقاده للحضارة الاوروبية يقول إن الإسبان جاؤوا إلى العالم الجديد تحت ستار التقوى ، لنشر الإيمان بإله واحد، وحقيقة الدين المسيحي الذي نصحوهم بقبوله، مضيفين بعض التهديدات. ولكن جشع الأيبيريين قادهم إلى غايات أخرى. فدمرت العديد من المدن، وأُبيدت العديد من الدول، وسادوا الملايين من الناس بحد السيف، وانقلب أغنى وأجمل جزء في العالم رأساً على عقب بسبب تهريب اللؤلؤ والفلفل. ويذكر مونتايني مثالين رهيبين لتعامل الاوروبيين مع الهنود الامريكيين الاسرى:
فلما استولى الأسبان على ملك البيرو طلبوا منه الذهب. ولكن عندما كانت الثروة الضخمة “مليون وثلاثمائة وخمسة وعشرين ألفًا وخمسمائة أوقية من الذهب ، إلى جانب الفضة وأشياء أخرى لا تقل عن ذلك” لا يكفي لإشباع تعطشهم للكنز ، طلبوا فدية مرة أخرى ليحصلوا على ما تبقى ، ثم أعدموه. سيناريو مماثل من القسوة يميز قصة آخر ملوك المكسيك. بعد هزيمته والاستيلاء عليه، وعندما لم يعثر الإسبان على الذهب الذي كانوا يبحثون عنه، عذبوه وأشووه على النار أمام أعينهم، من أجل العثور على الكنز الذي يرغبون فيه. ولذلك لا يمكن فصل النظرية العنصرية والعبودية والسياسات الاستعمارية تجاه البشر الغير اوروبي وتلك النظرية الأرسطية لتراتبية البشر وتوظيفها في عقلنة الاستعمار والعبودية.
التغيير للنظرة اتجاه الانسان و الحيوان مع مجيء الداروينية:
قبل نشر كتابه الشهير “نزول الإنسان” « The Descent of man» (1871)، كتب تشارل داروين في مدونته: “إن الإنسان في جبروته يظن أنه عمل عظيم يستحق وقار إله أكثر تواضعا …أظن أنه من الأحق اعتباره خلق من حيوان …” وقد طور نظريته بتفصيل في كتاباته اللاحقة، بحيث أكد على أن “الحيوانات، مثل الإنسان، يحسون بكل وضوح، بالسرور والألم، بالبهجة والتعاسة. فالسعادة لا تظهر في أحسن مما تفعله الكلاب الصغيرة، والقطط، والحملان … حينما يلعبون معا، مثل أطفالنا …” (نزول الإنسان، فصل 3).
ومنذ بروز النهضة الحقوقية للإنسان الفرد والتي قادت الثورات المتتالية التي اكتسحت أوروبا وشمال أمريكا خلال القرون الثامن والتاسع عشر والعشرين فإن ثورة خفية أخرى موازية تنادي بحقوق الحيوان كانت قد انتشرت عبر المعمور لترسخ مشروعية الحقوق الإنسانية من جهة ولتنظر لحقوق الحيوان وتناضل من أجل مأسستها.
فأصبح السؤال الأساس هو: كيف أن الحيوان مشابه للإنسان؟ جوابا على هذا السؤال البسيط والعميق يؤكد الباحثون على هذه العوامل البديهية:
البنية العظمية والجسدية؛
التطور الجيني عبر ملايين السنين خلال التطور الطبيعي؛
الإحساس بالفرح والألم؛
الرغبة في الحياة.
إن هناك دراسات تتبث أن الحيوان يشبه الإنسان في الشعور والإحساس لأنهما يتوفران على نفس الجهاز العصبي. ورغم اختلاف الحيوان عن الإنسان، فالكثير من الأبحاث أظهرت أن الحيتان (السمك) مثلا يشعر بالألم مثل الإنسان (أنظر بيترسنجر في :(Peter Singer, Non-Human Animal Ethic . فالمبدأ الأخلاقي الأساس، يقول بيتر سينجر خصوصا هو أن يتفادى الإنسان التسبب في الألم لأي حيوان، ولو في حالة الشك ان يتسائل هل الحيوان يحس أم لا يحس. فهو يرفض الجنسائية (Speciesism) الفكر الذي يعتبر الحيوان بدون إحساس إنسي، وبذلك لا يستحق الاعتبار، ويقارنه بالعنصرية (Racism) أو الميز الجنسي (Sexism) (أنظر كتاب تحرير الحيوان، فصل 1). وكواحد من بين المؤسسين المنظرين الأوائل لثورة تحرير الحيوان، ينادي بيتر سنجر (الباحث الأسترالي) بالواجب الأخلاقي لتحرير الحيوان. ويوافقه في هذا التوجه منظرون آخرون لحقوق الحيوان من أمثال طوم ريجن (Tom Regan) وجراي فرانتشيوني (Gary Francione)، وبيتر تاتشيل (Peter Tatchell)، وآخرون (أنظر ويكيبيديا “لائحة المدافعين عن حقوق الحيوان”باللغة الإنجليزية).
الربيع الأمريكي
(صيف 2020) أو الثورة الحقوقية الثانية:
لا مجادلة في أن ثورة الربيع الأمريكي (صيف 2020) مثل الثورة الحوقية الأمريكية لعام 1777 والحرب الأهلية (1861-1865) وموافقة الكونجرس على حق التصويت للسود (Civil Rights Act 1968)، والثورة الفرنسية ((1789 تبقى في العمق ثورة حقوقية بامتياز، ولا تعني فقط حقوق الزنوج ومناهضة العنصرية، بل تهم أيضا البيض والأجناس العرقية الأخرى المنتمية لطبقات كادحة همشها المجتمع الذي لا زال يعاني من رواسب عنصرية تجدرت في وعي مؤسسات الأمن والعدل وغالبية المواطنين البيض. وكما شاهدنا في شتى وسائل الإعلام خلال الأسبوع الأول من يونيو 2020، فإن حرق المراكز التجارية وتكسير الواجهات الزجاجية في الشوارع والسطو على الأبناك في شتى المدن الأمريكية ما هو إلا تعبير عن سخط شريحة عريضة من المجتمع الأمريكي وجدت نفسها مهضومة الحقوق الفردية مثلها مثل الطبقة السوداء (الإفريقية الأمريكية) التي عانت من العبودية والميز والاستغلال وعدم الاعتراف بهم كبشر لمئـات السنين ، وأصبحت تعامل مثل الحيوان بدون كرامة ولا حقوق إنسانية أساسية. وهنا تكمن أهمية تفكيف فكرة علاقة الإنسان بالحيوان في المخيال الغربي المعاصر وخصوصا من خلال إشكالية الحقوق الفردية وتمثلات الأفراد السود في ذلك.