محمد الـزرورة
جامعة محمدالخامس، الرباط
وفعلا، فمنذ القرن التاسع عشر، انتشرت فلسفة حقوق الحيوان و كثرالتساؤل حول أحقية البشرفي أكل لحم الحيوان، فانتشرت بذلك ثقافة النباتية (Vegetarianism) وبدأت تظهر في إنجلترا وأمريكا العديد من جمعيات الرفق بالحيوان والدفاع عن حقوق الحيوانات، والتي عارضت استعمال الحيوانات في المختبرات، واحتجت على تعذيب الحيوانات في شتى مرافق الحياة كالنقل في أقفاص ضيقة أو تقطيع أطرافها الجسدية أو ذبحها بالمجازر النثنة أو سلخها حية كما هي العادة. وكرد فعل، تم تكوين جمعيات مضادة للدفاع عن أهمية البحث العلمي واستعمال الحيوانات برفق واحترامها خلال إجراء التجارب، وتم سن قوانين لعقلنة التعامل مع الحيوانات. وقد تبع هذا التطور سن ترسانة من القوانين المحددة للتعامل مع الحيوان، من بينها:
في سنة 1849، أصدر البرلمان البريطاني قانونا (وربما كأول قانون في العالم الغربي) يجرم تعديب الحيوان؛ وتمت مراجعته في 1876.
في سنة 1873، قرر الكونكريس الأمريكي قانون ما يسمى بـ “قانون 28 ساعة” والذي يقضي بأن الحيوانات المنقولة في أقفاص بالقطار يجب أن تأكل وتشرب وتستريح كل 28 ساعة على الأقل.
في سنة 1958، تم إصدار قانون الدبح الإنساني للحيوان « Humane Animal Slaughter Act » والذي يحث على الرفق بالحيوان عند الدبح.
في 1960، كترث القصص المروعة حول بيع الكلاب للمختبرات من أجل التجارب المخبرية، فأصدر الكونكريس قانونا سمي بـ « Animal Welfare Act »، وكلفت وزارة الفلاحة بالسهر على تطبيقه. ويهتم بالعناية بالحيوان وتقنين استعمالها في التجارب المخبرية.
وفي سنة 1971، تم إصدار قانون لحماية الخيول البرية، بحيث تصبح محمية فوق أراضي الدولة.
وفي سنة 1973، أصدر الكونكريس الأمريكي قانونا لحماية الحيوانات المهددة بالإنقراض.
أما في إنجلترا فهناك مجموعة من القوانين التي تم إصدارها من أجل مأسسة حماية الحيوان منها:
“قانون الكلاب” ) أو (Vivisection: « [1906] The Dog’s act » ويمنع إعطاء الكلاب إلى المختبرات من أجل التجارب؛
“قانون الفرس” : «[1950] Docking And Nicking Act ». ويمنع قطع ديول الخيول ما عدى إذا كان ديل الحصان مريضا؛
“قانون الحريات الخمس”: « [1950] The Five Freedoms Act »، والذي يحث على توفير مجال للحرية للحيوان. وفي نفس السنة تم سن قانون يحتم استعمال المواد المخدرة حين إجراء تجاريب علمية على الحيوان في المختبر حتى لا يحس بالألم.
“قانون ذبح الدجاج” (1967) : يطالب بأن يكون دبح الدجاج بسرعة حتى لا يحس بالألم .
“قانون الطب”: «[1968] Medecines Act » يلح على إيجاد بديل للتجارب على الحيوانات من أجل الأدوية ومنتجات التجميل.
وقد تلت هذه القوانين العديد من القوانين الأخرى التي قننت كل طرق التعامل مع الحيوان ككائن حي يجب احترامه كما يحترم الإنسان. وبالموازاة مع هذه الثورة الحقوقية الصامتة من اجل تحقيق العدالة في مجال حقوق الحيوان كانت هناك ثورة حقوقية أخرى تطالب بمراجعة جدرية للفكرالحقوقي المهيمن وللفلسفة التنويرية التي بنيت في الحقيقة على هوية الانسان الفرد الأوروبي الأبيض والمسيحي الاصل. وظهرت مقولة “الجانب الأسود” للحضارة الغربية العصرية الذي أسس للإستعمارواستعباد الملايين من الافارقة والهنود والأجناس البشرية الأخرى (راجع وولتر مينيوولو)، وبذلك أصبح تاريخ أوروبا الحديث تاريخ حرمان نصف الإنسانية من حق أساسي وهوصفة الإنسان البشر.
صناعة الإنسان الحيوان والثورات الحقوقية: المفارقة العظمى
من بين المفارقات التاريخية التي أثارت استغراب الباحتين والمؤرخين هي مرافقة هذا المد التحرري (للإنسان والحيوان) في أوروبا والعالم الجديد للمد التوسعي الإستعماري في أفريقيا وآسيا وأمريكا. ففي بداية القرن التاسع عشر وخلال أوج المد الاستعماري وهيمنة الدول الأوربية على أراضي شاسعة في العالم الجديد وأفريقيا وآسيا ، واحتلال واستعباد شعوب كثيرة، ظهر نوع من التناقد الصارخ في منظومة الحقوق الإنسانية التي نادت بها الثورات التنويرية في أوروبا وأمريكا والمنادية بتحرير الإنسان وبإقرار حقوق الفرد الإنسان والمواطن. ويتجلى هذا التناقد في استثناء الإنسان الغير أوروبي والمرأة في البداية من هذه المنظومة كما أشرنا إلى ذلك سابقا. ومع سيطرة الجنس الأوروبي الأبيض على العالم بمساعدة الآليات التقنية التي أنتجتها الثورة العلمية والصناعية، أصبح الإنسان الغير أوروبي، وخصوصا الأسود البشرة أو الهنود الأصليون والاسيويون يحتلون مرتبات سفلى في السلم الحضاري وفي ماهيته كإنسان بشر. بل أصبح يحتل مرتبة الحيوان قبل أن يتطرق المتنورون الى المطالبة بحقوقه.
ففي العديد من الكتابات الأدبية والفلسفية والإثنوغرافية والعلمية-البيولوجية، كثرت البحوث والمنشورات التي تشرح وتؤرخ وتنظر لدونية البشر الغير الأوروبي الأصل، بأنه إنسان ناقص ولم يكتمل تطوره، وأنه أقرب إلى صنف الحيوان من الإنسان. فحسب الروائي الإنجليزي روديارد كيبلين، فالإنسان الغير أوروبي الأصل “نصفه صبي ونصفه الآخر عفريت”، مما فتح الباب أمام تطوير نظرية “مشروع الثقل الحضاري” (civilizing mission) الذي تحمله أوروبا والإنسان الأبيض على كاهلهما معا، وهو مساعدة هذا الإنسان-الحيوان البدائي و المتوحش في التطوروالتحضر ليصبح مشابها للإنسان الأوروبي الأبيض. ومع ظهور النظرية الداروينية في منتصف القرن التاسع عشر وإثبات النظرية العلمية حول تطور الأجناس والانتقاء الطبيعي والبقاء للأمثل، ثم نسج نظرية الانتقاء الجنسي (Eugenics) والتي ساهمت في مصرع العديد من الأجناس الغير أوروبية من خلال برامج إبادة جماعية (راجع: وولتر مينيولو، ورامون كروسفوكيل، وإنريكي دوسل، وآخرون).
مند بداية القرن التاسع عشر بدأت الشعوب الأوروبية تجني ثمار توراتها المتتالية بعد الثورة الفرنسية والأمريكية وبعد نجاح الرأسمالية في التوسع الإستعماري، وجلب الثروات من المستعمرات، فانتشرت الرفاهية والعدالة الاجتماعية وحقوق الفرد والتحرر من سيطرة الكنيسة والدين والتمتع بالملكية الفردية وتوفر الشغل ومعه انتشار الثراء والرأسمال والحكم اللبيرالي. فخلقت هذه الوضعية الاقتصادية عادات اجتماعية ساهمت في تنمية المجتمع الرأسمالي وتطويره ليصبح أكثر استهلاكا للمنتوجات والمواد الترفيهية. ومع وفرة وقت الفراغ بين الطبقات العليا والمتوسطة بسبب بروز آلات الإنتاج، تطورت ثقافة الترفيه لتصبح صناعة قائمة بذاتها مثل ثقافة السينما التي ستتطور لاحقا خلال النصف الثاني من القرن العشرين، لتصبح من بين ركائزإنتاج الوعي الجماعي العصري في اوروبا وأمريكا قبل أن تنتشر عبر العالم مع عولمة النمط الرأسمالي.
الأوروبيون ومعارض الحيوانات البشرية (Volkerschauen Human Zoos and )
في بداية القرن التاسع عشر وفي خضم الثورات الحقوقية، برزت ثقافة المعارض الاستجمامية والترفيهية عبرإنشاء معارض وكرنفالات وحدائق للحيوانات الغريبة المستوردة من المستعمرات والعوالم الغريبة التي تحدث عنها سابقا الرحالة والمبشرون والمستعمرون لبلدان وقارات تبعد عن أوروبا بعدة شهور بالباخرة بحرا وسنوات برا. كان الهدف في البداية من هذه المعارض للحيوانات والأشياء الغريبة هو الإخبار والتسلية والمعرفة واكتشاف ثقافة الآخر الغير أوروبي، لكن هذا التصور تغير ليصبح هدفه هو إثباث تفوق الذات الأوروبية كذات أكثر إنسانية وتحضرا من كل الأجناس البشرية الأخرى.
لقد هيمنت ثقافة صناعة الترفيه مع بداية القرن 19 ومع ازدياد الرفاهية ووفرة الوقت والمال في المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي الجديد في أوروبا وأمريكا، بزغ وعي جماعي جديد يمجد الفردانية والحرية والتقدم العلميي والتيكنولوجي، فكثرت المعارض الترفيهية والمتاحف المفتوحة على الهواء الطلق وكذلك معارض الألعاب البهلوانية واللعب الآلية كاسيارات الصغير والقاطرات للأطفال وغيرها. وثم كذلك مزج معارض حدائق الحيوانات بالمعارض الثقافية لأجناس وشعوب من مختلف بقاع العالم المستعمر حديثا. وقد جمعت هذه الآليات من أجل التسلية والترفيه والمشاهدة الغرائبية، وخصوصا حين إضافة نماذج بشرية غريبة إلى هذه العروض: فكان هناك الأقزام من إفريقيا، وأطول البشر من باتاغونيا جنوب أميريكا، والهنود الإسكيمو، وقبائل المساي، وذووا العاهات مثل الرجل الفيل، والمرأة البطريق او ذات الأسين، والهوتنتوت (المرأة الأفريقية ذات الأرداف العريضة)، والمرأة ذات اللحية الطويلة، ومبثوروا الأقدام والأيادي، ومخلوقات غريبة أخرى كان الآلاف من الناس يزورون المعارض لرؤيتها يوميا والإستمتاع بغرائبيتها .
وقد كان هذا قبل بروز الصناعة السينمائية حوالي 1935، بحيث أن العروض البشرية والحدائق الحيوانية البشرية بدأت في إغلاق أبوابها بعد التصعيد في المطالبة بإقرار الحقوق الإنسانية وإنهاء العبودية والميز العنصري من طرف مفكرين ومنظمات، و بعد تطور السينما التي أصبحت تقدم كل أنواع الغرابة داخل البيوت ودون الحاجة للتنقل إلى أماكن المعارض الغرائبية.
وقد يستغرب المرأ حين يلاحظ هذا التناقض الصارخ بين انتشار مباديء الثورة التنويرية المنادية بحقوق الفرد والإنسان وبروز مؤسسات ترفيهية ضخمة تستورد الأجناس البشرية وتستعرضها بمعية الحيوانات في الحدائق وأحيانا في أقفاص مع القردة (مثل حالة القزم أوطا بانغا الكاميروني في أمريكا في بداية القرن العشرين، وسارتجي بارتمان التي عرضت في لندن وباريس في أوائل القرن 19، والرجل القرد في نيويورك وآخرون).
ويذكرالمؤرخ الفرنسي باسكال بلانشارفي فلمه Human Zoos” «إن حوالي 1.4 مليار شخص زاروا تلك المعارض البشرية بين سنة 1810 و1958. وقد أنشأت هذه المعارض في أشهر المدن الأروبية والأمريكية مثل باريس وهامبورغ وانثوورب وبروكسيل ولندن ومانشيستير وميلانو وبارسلونا وبيرلين ونيويورك وسانت لوي وسان دييكو ومدن أخرى. وكان عادة مايتم استعراض افراد او مجموعات قبلية تمثل مستويات مختلفة من التطور البداءي. يكونون أحيانا عراة. حفاة لإثبات وحشيتهم، فكانت هذه المجموعات تعيش لشهور في وسطها الجديد وتبني مساكنها البسيطة كأعشاش داخل مجال حديقة الحيوانات لاستعراض عاداتهم واجسامهم للزوار. ففي سنة 1877 نظمت مؤسسة حديقة الحيوانات بباريس معرضين اثنوغرافيين استعرضا عناصر من النوبيين من السودان والإنويت من شمال كندا، واستقبلا خلال هذه السنة حوالي مليون زائر(راجع: نفس المرجع “Human Zoos.” Wikipedia : ). وفي سنة 1889 استعرض المهرحان العالمي لباريس 400 نوعا بشريا في القرية الزنجية ( le village nègre )، وقد عرضت بعض النمادج البشرية عارية او نصف عارية داخل أقفاص. وأما معرض 1931 فقد لاقا نجاحا عاليا بحيث حضره 34 مليون زائر. وبسبب كترة إقبال الجماهيرعلى هذا النوع من الترفيه الثقافي الذي كان يدر على أصحاب المهرجانات أموالا طائلة فقد تكاثرت المهرجانات المماثلة عبر أوروبا وأميركا الشمالية. وفي سنة 1925 نظمت “حديقة الحيوانات المنظر الجميل” في مانشيستيرمعرضا تحت عنوان “أكلة البشر”.
ومن بين الامثلة الأخرى لهذه المعارض البشرية الحية، نذكر حدائق سان لويس في ميزوري بأمريكا (1904)، وحدائق البرونكس بنيويورك (1906)، وحدائق بروكسيل (1958)، وحدائق اوسلو بالنرويج (1914)، وحدائق اوسبورغ بألمانيا (2005)، وأمثلة كثيرة أخرى امتدت الى القرن21. فلننظر الى بعض هذه الأمثلة بشيء من التفصيل. ففي سنة 1904 كان معرض سان لووي العالمي في ميزوري من أشهر المعارض الدولية، بحيث انه بالإضافة لكونه يوفر مشاهد ترفيهية بامتياز كان سوقا ضخمة تعرض فيها العديد من المنتوجات الاستهلاكية الجديدة الموجهة للجمهور. ومن بين ما ميز هذا المعرض هو استقدام حوالي 1000 فيليبيني من قبائل مختلفة ادهشت الزوار بغرابتها.
وكانت قرية ايغوروت اكثر شهرة وغرائبية بحيث قدمهم المنظمون كبشر يشبهون اكثر الحيوان في بداوتهم، وبذلك يمثلون نقيض الحضارة الاوروبية المعاصرة. فكانوا شبه عراة ويأكلون لحم الكلاب: يزودهم بذلك المنظمون. فكان أكل الكلاب من منظور الجمهور الامريكي شبيها بأكل لحم البشر ومثيرا جدا لفضول الإنسان الغربي عموما. ولكن هذه الظاهرة كانت تحريفا لعادات الإيغوروت أصلا، فكانوا لا يأكلون الكلاب الا خلال المناسبات الدينية والطقوس الموسمية. فالمنظمون خلقوا منهم بشرا متوحشين كمصدر للفرجة. وقد مكتوا في المعرض سبعة اشهر وتم استعراضهم في مدن اخرى عبر امريكا (راجع: ويكيبيديا، “حدائق الحيوانات البشرية”). وفي سنة 1914، تم حظر مثل هذه المعارض في العديد من الولايات.
والى جانب الفيليبينيين تم عرض بعض الزنوج الأفارقة من قبائل مختلفة ايضا. وقد اشتهر من بين المعروضات شاب زنجي قزم اسمه أوطا بانغا من أصل كونغولي. ويشاع ان مالكه القس والمكتشف الامريكي الشهير سامويل فيرنير اشتراه كعبد من عند احد النخاسين في افريقيا، ثم اتى به الى أمريكا لاستعراضه في المهرجانات وبدريعة تقريب الثقافات الغريبة من الامريكيين وافادة علماء الأنثروبولوجيا والتطور البشري.