تساءل دولوز، في كتاب يحمل عنوان “حوارات” Dialogues، ما هو الحوار؟ وما فائدته؟ -فأجاب- ينبغي ألا يتم الحوار بين الأشخاص، بل بين السطور والفصول، أو بين أجزاء منها؛ فهذه الحوارات هي الشخوص الحقيقية” ، وهو في هذا مثله مثل صمويل بيكيت، متحفظ من جدوى الحوارات، ومثلهما أيضا، عبد الفتاح كيليطو، في تردده من إجرائها، لكنه استجاب لها واعتنى بها، وجمعها في كتاب “مسار”.
الكاتب عبد الكبير الخطيبي رجل حوار، أجريت معه حوارات ومقابلات تضاهي ما ألفه من مؤلفات، في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، بل حظيت بتأليف مستقل مثل كتاب” La beauté de l’absence” للباحث حسن وهبي، وكتاب” Le chemin vers l’autre” . ونجد من محاوريه، الصحفيين والكتاب أنفسهم: غيثة الخياط، والطاهر بنجلون، وبختي بن عودة، وعبد الله بنسماعين، وعبد المجيد بنجلون، وبول شاوول…
إن انتعاشة الحوارات مع المفكرين والمبدعين لمشير على أنهم أفلحوا، أو يسعون إلى ذلك، في إبداع متلقيهم وصناعتهم، بتعبير الخطيبي نفسه. وهو الذي كان يقول “مطلوب من الكتاب أن يقدم نفسه”. لكن الحوار يضمن شروط نجاحه، إذا تناظمت مهارة حذق السائل وخصلة ثقة المسؤول.
في ما يلي الحوار الذي أجراه معه صمويل فيبر :
ستكون لنا الفرصة، للعودة إلى مسألة المدرسة، ووظيفتها الاجتماعية والثقافية. ففيما يعنيني فإن المدرسة الابتدائية والثانوية رغبتني خاصة في الذهاب لرؤية «الهناك». في تلك الفترة صار هذا «الهناك» شديد الحضور في الولايات المتحدة: وبخاصة، بعدما قرأت كتاب «جاك كرواك» On The Road «على الطريق»، وكذلك بعدما شاهدت road movies مثل ُEasy Rider. فهذا «الطريق» قادني إلى الأطلسي، من الجامعة الأمريكية، إلى ألمانيا وبخاصة مدينة ميونيخ. إذا، وبشكل ما، فإن المسار الذي قطعته يأتي على عكس ذلك الذي سار فيه والدي.
في مدينة ميونيخ، استطعت أن أخوض تجربة العيش كاملة، في بلد كانت لغته على غير لغتي «الأم». وبعد انصرام سنتين، قضيتهما بميونيخ أحسستني مرتاحا بما يكفي، في الألمانية حتى أقوم باكتشاف بالغ الأهمية لصق بي منذ: ذلك التعذر في المفاضلة بين اللغات. الأمر الذي لا يجعل اللغات متكافئة، حتى تتيح بل وترغم على رؤية العالم بصيغة مختلفة، وينبغي على الخصوص ألا يعاش هذا الاختلاف مثل نقص، بل كمورد. ولعل هذه التجربة من بين أخريات التي أتقاسمها مع عبد الكبير: تجربة لغة مغايرة عن «اللغة الأم»، غير أنها تفتح الطريق نحو معرفة الآخر والغيرية، بكل تعقيدها وتضاربها. أعتقد أن هذه التجربة شديدة الصعوبةـ عند خوضها، ما دمنا منكفئين على لغتنا «الأم».
وأنا أعود من ميونيخ إلى الولايات المتحدة، بهذه التجربة اللغوية للغة، لم تكن لغتي، تمكنت من القيام بسلسلة من الاكتشافات، كان لها أثر علي. أولا، الفكر، والكتابة، وتدريس «بول دو مان» Paul de Man الذي أضحى مشرفا على أطروحتي؛ ثم أعمال «أدورنو» و»بينجامين» اللذين، كل على طريقته، حاولا أن يضعا الفكر الغربي في تأهب، ضد اتجاهاته الرامية إلى مواراة الآخر؛ قصد تأسيس: هويته «الخاصة». وأخيرا، فكر دريدا وكتابته، فهو لا يضاهى، في انكبابه على الاشتغال على التضارب المركب لهذه العلاقة مع الآخر، في مجالات أكثر تعددا: الفلسفة، والأدب، والنقد، والسياسة أيضا، التي شغلته كثيرا.
وهذا ما يدعوه «أدورنو» ب»غير المماثل» أو «اللامفهومي». ويسميه دريدا الاختلاف المرجأ defférance، ثم «التفكيك» فيما بعد. مرورا بالأول، الذي ترجمته، ودرست معه مدة سنتين ب»فرنكفورت» إلى الثاني، فأظنني ظللت وفيا لما يحفز فكري حفزا أساسيا: الجهد المبذول بحثا عن التنافر والتضارب المتواريين خلف: كل إثبات ومحاججة بوصفهما دوالا.
وبشكل ملموس أعتقد أنني كنت دائما أحتفظ بملمح مركزي لفكر أدورنو، مع احتفاظ بمسافة بيني وبينه: يتعلق الأمر باقتناع أن الثقافة الأوروبية، وحتى الغربية، كان يهددها اتجاه نرجسي تسلل إلى عقلانيتها، الأمر الذي يعيق تناظم نقد عقلاني لهذا النوع من النرجسية. رغم أن الأسماء التي أعطاها كل من أدورنو ودريدا تظل أيضا مختلفة، ورغم أن وضع الفكر المفهومي مختلف بين الاثنين، فهما يلتقيان في نفس الانهمام بالذات-ذات تتجه إلى «الاعتناء» بعينها، وبخاصة الاعتناء بإتباع-إلحاق- الآخر. لكن عند دريدا، مثلما هي الطريقة الأخرى لصديقه «بول دو مان»، ينضاف بعد آخر إلى هذا النقد، الذي ينصب على النرجسية الثقافية والفكرية الغربية، تطلق عليه فكرة التفرد، كعلامة أشد قوة على الغيرية. بالنظر إلى أدورنو الذي تصور دائما هذا الآخر بمثابة سلب للمفهوم أو المطابق.