من رسائل عبد الكبير الخطيبي إلى غيثة الخياط – 38- الرسالة 32: جاك دريدا صديق ذو خصال رفيعة

«مراسلة مفتوحة» سلسلة منتظمة من الرسائل المتبادلة بين عبد الكبير الخطيبي وغيثة الخياط، طيلة أربع سنوات (1999-1995). انضبت المراسلات لموضوعة «التحاب» أو الانجذاب كما يفضل الخطيبي ترجمتها، وانطلقت من أرضية محددة «كتاب التحاب» Le livre de L’Aimance لعبد الكبير الخطيبي.
كتاب «مراسلة مفتوحة» قدره في عنوانه، الانفتاح والانزياح، فأثناء المبادلات التراسلية، وقع حدث خطير جدا، في الحياة الأسرية للكاتبة غيثة الخياط، وهو وفاة ابنتها الوحيدة. وبدل أن يتوقف المكتوب L’écrit، انفتح على أبعاد أخرى، وانزاح إلى موضوعات غير مدرجة قي الاتفاق المشترك والعقد الضمني بين الكاتبين. «إنه عقد ضمني، بشكل من الأشكال، يقول الخطيبي، تركناه مفتوحا على كل الاحتمالات». انتصرت الكتابة على الموت. وحولته الكاتبة إلى موضوع للكتابة ومادة للمبادلة التراسلية، كما هو واضح في رسائل للخياط ترثي فيها ابنتها الوحيدة «عيني» وتتفجع على أمومتها المفقودة وتنتقد فيها الممارسة الطبية، وهي الطبيبة في اختصاصات متعددة.
حضرت تيمات وموضوعات لم تكن مبرمجة من قبل: الفن، العداوة، السياسة، الزمن، السفر، الألم، العلم، الطب…إلخ.
صحيح أن الخطيبي رجل حوار، حوار منسق ومنظم سواء مع نظرائه أو قرائه أو طلبته. يتعلم حتى من طلبته. يمدد الحوار والمحادثة بتجربة الكتابة ويعده موردا للإغناء والتثمير يقول: «ففي بعض الأحيان يحدث لي أن أكتب أشياء بعد محادثة، كما لو أنني أمدد بالكتابة الحوار. وفي أحيان أخرى يمنحني الآخرون أفكارا، لأن في التبادل هناك اللغة. والحالة هذه، فاللغة تعيش في الجسد، وفيما أسميه الذكاء الحساس للجسدl’intelligence sensible du corps، ويترجم بالانفعالات، والأحاسيس، وطريقة الكلام، والأسلوب، كل ذلك مصفى بواسطة الذكاء الحساس للجسد؛ وبذلك فإننا نراه في طريقة الكلام، وفي طريقة الكتابة. فالحوار مؤصَّل في الحياة، وفي اليومي.»
لا تقرأ مراسلات الخطيبي والخياط خارج السياق العام للمسألة النسائية، أي المرافعة عن قضايا المرأة ومناصرتها، وإن كان هذا الكتاب ليس الوحيد الذي يتحدث فيه الخطيبي عن المرأة، فتحدث عنها في أعمال أخرى فكرية وإبداعية من قبيل: الاسم العربي الجريح، حج فنان عاشق، كتاب الدم… علاوة على التشجيع، الذي يخص به النساء، بتقديم أعمالهن، وإشراكهن في برامج إعلامية، كما لا تخفى نسبة الكثافة في كتابات النساء عن أعماله!
يقول الخطيبي: «هناك بطبيعة الحال إرادتي في الدفاع عن المرأة وعن صورتها وما تمثله، والقول بأننا يُمكن أن نتحاور. ومن جهة أخرى كنت دائما أتساءل عن مكانتي فيما يخص علاقتي بالمرأة عموما، أو بأي امرأة على الخصوص. ولابد أن أجيب عن هذا السؤال كل يوم. عندما تكون هناك شفرة للتواصل، سواء أكانت مع الرجل أم مع المرأة، إذ ذاك يُمكننا جعل الحوار يتقدم في المجتمع. وهذا فيما يبدو حيوي لأن هناك إما الصمت أو استغلال للمرأة، لأنه عندما نعرف هشاشتها في الصورة التي تكونها عن نفسها يُمكننا دائما أن نجعلها قابلة للعطب. إذن أولئك الذين يتلاعبون بعلاقتهم مع النساء يتحاشون الحوار؛ فهم يستخدمون هذا الضعف لمصالحهم الخاصة».

غيثة،
ما زال الصيف يضمنا إلى حضنه. أستعمل مكتبين في العمل، الأول للإدارة(مكيف)، والثاني أنجز داخله، أبحاثي الشخصية، أذهب من أحدهما إلى الآخر، كما لو أنني أنتقل من فصل إلى آخر. تأثير المكيف الهوائي مدهش، لكن أليس جسدنا، مناخنا المصغرmicroclimat، يحركه الزمن، ويؤرجحه الزمن المضاد! لا أعاني من آلام الظهر إلا نادرا: وفي هذه الحالة ليس هناك من اختيار آخر: إنها محطة فضلى للاستماع إلى الموسيقى، والقراءة، وربما، استقبال الأصدقاء. أردد دوما: لما أكون مريضا هنا أو هناك: هل أستطيع أن أجعل من ذلك تمرينا على بناء الذات؟ هكذا أكون في صحبة طبيبي، أطبائي، دون أية شكوى أو آهات، يا له من كبرياء! يخيل إلي! بالتأكيد. غير أن الحب، نوعا من حب الصمت والعزلة، كل يوم، يخلصني من أساي.
أنهيت، هذا الصيف، كتيبا «لغة الآخر» La langue de l’autre، في جزء منه، حوار مع الفيلسوف جاك دريدا. وهو صديق ذو خصال رفيعة. هل قرأت أعماله؟ أعتقد أن هذه الأعمال مطروحة على طريقك، طريق فكرك. هذا الكتيب الذي أتيت على إنهائه، يتضمن مجموعة من المقالات، والشهادات، عن تجربتي في الكتابة. له امتداد مع كتابات أخرى: «عشق اللسانيين»Amour bilingue، خاصة.
مرت سنة على قصائد كتبتها، وهي تشغل فكري. ربما سأعود إليها، لأحلم بحياتي الأخرى. أنتظر، أعيد القراءة، أنجز أبحاثا. فلا بد من التراخي حتى نبقي على أصداء الكلمات. اشتدت حاجتي إلى هذا الوقت، منذ ثلاث سنوات. أنا في طور التنظيم، وأخذ مزيد من الوقت. ففي أجواء هذا الغياب الفكري أرسل إليك هذه الرسالة. وهوما يفسر تأخر مراسلتي: كنت منشغلا بخاتمة كتيبي، وهو قرار من الصعوبة بمكان. الكتاب لا ينتهي ولا الرسالة، فما يوجد فقط هو انقطاعات. وما قيام الحياة إلا عليها، انقطاعات في سلسلات متعددة. من هنا التشوهات في العلاقات مع الذات، والآخرين. أحدثك، أكتب إليك، تكتبين إلي، وهكذا دواليك، نحن أمام فراغ معتم، إلى حد ما. يخيل إلي أنك تكتبين ليلا، حينما تأخذ بيدك، شذرة نجم.
مع مودتي.

عبد الكبير
الرباط، في 15 شتنبر 1997


الكاتب : ترجمة وتقديم: محمد معطسيم إهداء إلى مراد الخطيبي

  

بتاريخ : 10/06/2021