من رسائل غيثة الخياط إلى عبد الكبير الخطيبي 21 : الرسالة 35: من المفروض القيام بوثبة لأن الشيخوخة حطام

«مراسلة مفتوحة» هي سلسلة رسائل كتبت ما بين دجنبر 1995 و أكتوبر 1999، بين غيثة الخياط، هي في ذات الوقت كاتبة ومحللة نفسية، وعبد الكبير الخطيبي، وهو كاتب أيضا وجامعي وباحث في العلوم الإنسانية. وهما سويا ينتميان بذلك إلى الحضارة الإسلامية ونظامها الاجتماعي الأبوي. وهي تعرض تبادلا خاصا وأكثر تفردا في العالم العربي.
«مراسلة مفتوحة» هل هو فن للصداقة، أم شكل أدبي عبر الرسائل، أم رغبة في التقاسم الفكري، أم صيغة لركوب المغامرة؟ هكذا سأل الناقد حسن وهبي صديقه عبد الكبير الخطيبي.
أجاب الخطيبي: كان لها هدف إجرائي واضح: الإعلان عن صداقة فكرية بين امرأة ورجل، في العالم الإسلامي ونظامه البطريركي. فهي أكثر منها شهادة، هذه المراسلة المفتوحة تراهن على الحقيقة الخطيرة، عبر هذا النوع من التبادل. كسر بعض المحظورات التي تكبل النقاش العمومي بين الناس، منشورا ومقروءا ومتداولا بالنسبة لإمكانات أخرى من النقاش المكبوح بين الرجال والنساء، كما يقول الخطيبي في تقديمه لهذه المراسلة.
ومن الخطأ مقارنة هذه الرسائل، بتلك المتبادلة بين مي زيادة وجبران خليل جبران؛ لاختلاف طبيعة العلاقة بين هؤلاء، بين الحب والصداقة، وبين العلاقة العاطفية والصداقة الفكرية. وهو سوء الفهم لصق بذهنية البعض. لكن غيثة الخياط نفت هذه الشبهة، ذات الهيمنة الذكورية. ولو كان الأمر صحيحا لجهرت به، كما تكرر دائما، بقدر ما جرأت على الكتابة معه، وليست عنه كما تؤكد أيضا.
انضبطت الرسائل -بلغت تسعا وخمسين رسالة- منذ البداية لمفهوم «التحاب» الذي عرفه الخطيبي، في تقديم الكتاب، كالآتي: « أقصد ب «تحاب» لغة الحب التي تثبت المحبة الأكثر نشاطا بين الكائنات، والذي يستطيع أن يمنح شكلا لتوادهم ولمفارقاته. أنا مقتنع أن محبة، من هذا القبيل، بإمكانها تحرير بعضا الفضاءات حيث تحظر المباهج بين الشركاء. مكان للعبور والتسامح، معرفة بالعيش المشترك بين الأجناس والحساسيات والثقافات المختلفة» حرص الخطيبي على تحويل الكلام إلى كتابة رغبة منه في التوثيق، وإيمانا منه أن البقاء للأثر في مواضيع تناسب الصداقات الفكرية، ومقاومة للنسيان الذي يعتور الكلام.
مر أكثر من عقد ونصف، على صدور هذه المراسلات بين دفتي كتاب «مراسلة مفتوحة» تتأسف غيثة الخياط متحسرة على أن هذه المراسلات لم تعرف طريقها إلى لغة الضاد، وتعتبر الأمر كارثة، في حين ترجمت إلى لغات أخرى كالإنجليزية والإيطالية.
تحاول الخياط استعادة رسائلها. وقد كتبتها بخط اليد وأحيان على ورق رسمي. وقد صارت الآن إرثا لعائلته قبل أن تصير إرثا للذاكرة الثقافية لمغربية، في انتظار تأسيس «مؤسسة الخطيبي».
كتب الخطيبي مقدمة قصيرة للكتاب واختار عنوانه وناشره. لكن الخياط ستكتب مقدمتها في النسخة المترجمة إلى الإنجليزية ولم يقيض للخطيبي قراءتها لأنه كان يحتضرـ كان ذلك اليوم 16 مارس 2009.
لم تعرب الرسائل، وهم ما حز في نفس الكاتبة. واعتبرت الوضع كارثة في العالم العربي، وهو المعني بمحتواه أكثر من البلدان الأخرى. تمنت لي غيثة الخياط قراءتها بالعربية فانجذبت إلى ترجمتها، إلى اللغة نفسها. وقد أذنت لي بذلك ووافقت. كانت الخياط حافزا مباشرا لإنجاز ترجمة هذه الرسائل ورسائل أخر. لعلها تكون بداية لترجمة العمل كاملا. وأنا متيقن أنها ستسعد بذلك. وهي المعدودة على الحركة النسوية.

 

انتظرت طويلا، رسالتك الرابعة والثلاثين: يتملكني رهاب عندما تضيع الرسائل، وهذا ما يحدث في أحيان كثيرة. إنه موت لهذا الرابط وهو يرنو إلى هذا الآخر، الذي ستجذبه بضع كلمات أو صفحات…
جاءني خبر، أنك كنت مريضا، وأتقاسم معك هذه الحالة، لا حياة، ولا موت، ولا استتباب، ولا توازن ذلك هو المرض. من جهتي، فأنا واهنة، جد واهنة، وعظامي مفككة. من يوم لآخر، تكون الفقرات العنقية متجمدة، أو الأجنحة الحرقفية les ailes iliaques منكسرة كما لو تلقت مائة جلدة، بعصا في ساحة عمومية. من الواضح أن أجنحتي الحرقفية لم تعد قادرة على التحليق، ولا السير، ولا السباحة، ولا الحركة أثناء الرقصات المقدسة، والحفلات البعيدة والمستحيلة.
غير أن مرضي هو «ارتكاسي» ومجهول السبب Épigraphique. وتداعياته ناتجة عن تدخل طبي iatrogène، وكل هذا لا يضفي عليه أبدا، طابعا شعريا.
حاجتي إلى ابنتي «عيني» لفهم م. بروست بين المرض والإبداع، والنبوغ والأم. هي عندها لحظة بحث عن آخر، أكثر تنوعا وإدهاشا، وبداهة…
أجنحة بروست كانت منتشرة في سعة، رغم وضعيته المتمثلة في الولع التسطحي clinophilique، الجديرة بمريض عظيم مشهور !
أجنحة متكسرة، وحدة، صمت، منفى: إنه وضعي الجديد، صديقي على الثبات الرائع.
أشبه هذه الحيوانات المضطهدة، لأن تعتبر ضارة وبغيضة. فأر؟ وطواط أو غراب ينذر بالشؤم.
الحيز الذي أسكنه أكثر، هو الصمت. صمت الجذور، والنزول إلى أحشاء الأرض. لا أعرق إذا كنت نزلت، في الجيزة، إلى الهرم. انطباع رهيب، وأنت تسير وسط هذه الحرارة الخانقة، بحثا عن الموتى من الملوك، أو في مناجم إفريقيا الجنوبية، حيث وصلت إلى ما لا يقل عن مائة وثلاثين مترا. فبحكم كونا عددا كبيرا من الأشخاص، فهذا لم يغير من الواقع شيئا: الجميع التزم الصمت، سوى المرشدة وهي تلج المنحدر بروعة، وهذا الثقب الضخم في بطن الأرض.
تحيلني على ما قلته، عن رامبو الذي قضى جراء مرضه، منذ مراهقته. قررت أن العالم كان تحت وليس في أعلى؛ لأن الاتساق ينشأ عندها من هذه المرونة، مثل اتساق رامبو، مرقنا(بضم الميم وفتح العين المشدد) بكلمات عذبة ومجنونة، لا تلتف سوى داخل التجويف المريع للمرض.
أنا التي مارست الطب لمدة اثنين وثلاثين سنة، أول ساعة من حصتي، لم أفكر إلا في إمكان واحد، بما أنني أمسيت قاهرة جبارة لحالة «المرض»، ينبغي القيام بوثبة متسارعة من الحالة النهائية: صحة إلى الحالة النهائية: موت. لكنني لا أرى ما الذي أحافظ عليه منهما.
ومع ذلك، قضيت أمس ست ساعات في صحبة «الكسندر مينكوفسكي» Alexandre Minkowski، أحد أكبر أطباء هذا القرن. ثمة «فجوة» بن تفكيره وتفكيري. هو مع الحادثة وأنا مع المرض. هو نشيط على الطريقة الأمريكية وأنا سلبية ومثالية، بمعنى فرنسية مفترى عليها.
وأحتفظ بما صرح به رامبو وأثبته، في إجراء القرار. من المفروض القيام بوثبة؛ لأن الشيخوخة حطام. الوثب على العته démence، يا لها من كلمة عجيبة في ابتهاجها، أفسدها الزهايمر! أو في الموت الطبيعي، موت أسلافنا فيما سبق الطب المسمى حديثا. اجتذبني هذا الأخير؛ كنت سأموت ولم أتجاوز سن الثانية عشرة، جراء استعصاء تنظيف للبطن بالأساليب التقليدية.
أحرص على الحديث إليك عن التساوق الخطي للتقاليد والأسلاف: من الآن فصاعدا أسمي» الطب النفسي ذو الدماغ العاري» مادام ألكسندر مينوكوفسكي هو «الماندران ذو القدمين العاريتين».
الأطباء كما وجدتهم ذوي فقر ثقافي شديد، الراكضون، معنى فرقة المشاة… والأطباء النفسيون بلهاء، يعيدون العلامة للأطفال المعزولين داخل معاناتهم…
سأعود إلى نيتشه وإبداع العزلة «التي ترافق نهاية كل اعتقاد» .
إنه مهول؛ شكرا على كشفه لي!
هل ما زلت قادرة على الإحساس… في الصداقة.


الكاتب : ترجمة وتقديم: محمد معطسيم

  

بتاريخ : 08/05/2021