من رسائل غيثة الخياط إلى عبد الكبير الخطيبي 22 : الرسالة 33: أنا جراب من المكابدات المختلفة

«مراسلة مفتوحة» هي سلسلة رسائل كتبت ما بين دجنبر 1995 و أكتوبر 1999، بين غيثة الخياط، هي في ذات الوقت كاتبة ومحللة نفسية، وعبد الكبير الخطيبي، وهو كاتب أيضا وجامعي وباحث في العلوم الإنسانية. وهما سويا ينتميان بذلك إلى الحضارة الإسلامية ونظامها الاجتماعي الأبوي. وهي تعرض تبادلا خاصا وأكثر تفردا في العالم العربي.
«مراسلة مفتوحة» هل هو فن للصداقة، أم شكل أدبي عبر الرسائل، أم رغبة في التقاسم الفكري، أم صيغة لركوب المغامرة؟ هكذا سأل الناقد حسن وهبي صديقه عبد الكبير الخطيبي.
أجاب الخطيبي: كان لها هدف إجرائي واضح: الإعلان عن صداقة فكرية بين امرأة ورجل، في العالم الإسلامي ونظامه البطريركي. فهي أكثر منها شهادة، هذه المراسلة المفتوحة تراهن على الحقيقة الخطيرة، عبر هذا النوع من التبادل. كسر بعض المحظورات التي تكبل النقاش العمومي بين الناس، منشورا ومقروءا ومتداولا بالنسبة لإمكانات أخرى من النقاش المكبوح بين الرجال والنساء، كما يقول الخطيبي في تقديمه لهذه المراسلة.
ومن الخطأ مقارنة هذه الرسائل، بتلك المتبادلة بين مي زيادة وجبران خليل جبران؛ لاختلاف طبيعة العلاقة بين هؤلاء، بين الحب والصداقة، وبين العلاقة العاطفية والصداقة الفكرية. وهو سوء الفهم لصق بذهنية البعض. لكن غيثة الخياط نفت هذه الشبهة، ذات الهيمنة الذكورية. ولو كان الأمر صحيحا لجهرت به، كما تكرر دائما، بقدر ما جرأت على الكتابة معه، وليست عنه كما تؤكد أيضا.
انضبطت الرسائل -بلغت تسعا وخمسين رسالة- منذ البداية لمفهوم «التحاب» الذي عرفه الخطيبي، في تقديم الكتاب، كالآتي: « أقصد ب «تحاب» لغة الحب التي تثبت المحبة الأكثر نشاطا بين الكائنات، والذي يستطيع أن يمنح شكلا لتوادهم ولمفارقاته. أنا مقتنع أن محبة، من هذا القبيل، بإمكانها تحرير بعضا الفضاءات حيث تحظر المباهج بين الشركاء. مكان للعبور والتسامح، معرفة بالعيش المشترك بين الأجناس والحساسيات والثقافات المختلفة» حرص الخطيبي على تحويل الكلام إلى كتابة رغبة منه في التوثيق، وإيمانا منه أن البقاء للأثر في مواضيع تناسب الصداقات الفكرية، ومقاومة للنسيان الذي يعتور الكلام.
مر أكثر من عقد ونصف، على صدور هذه المراسلات بين دفتي كتاب «مراسلة مفتوحة» تتأسف غيثة الخياط متحسرة على أن هذه المراسلات لم تعرف طريقها إلى لغة الضاد، وتعتبر الأمر كارثة، في حين ترجمت إلى لغات أخرى كالإنجليزية والإيطالية.
تحاول الخياط استعادة رسائلها. وقد كتبتها بخط اليد وأحيان على ورق رسمي. وقد صارت الآن إرثا لعائلته قبل أن تصير إرثا للذاكرة الثقافية لمغربية، في انتظار تأسيس «مؤسسة الخطيبي».
كتب الخطيبي مقدمة قصيرة للكتاب واختار عنوانه وناشره. لكن الخياط ستكتب مقدمتها في النسخة المترجمة إلى الإنجليزية ولم يقيض للخطيبي قراءتها لأنه كان يحتضرـ كان ذلك اليوم 16 مارس 2009.
لم تعرب الرسائل، وهم ما حز في نفس الكاتبة. واعتبرت الوضع كارثة في العالم العربي، وهو المعني بمحتواه أكثر من البلدان الأخرى. تمنت لي غيثة الخياط قراءتها بالعربية فانجذبت إلى ترجمتها، إلى اللغة نفسها. وقد أذنت لي بذلك ووافقت. كانت الخياط حافزا مباشرا لإنجاز ترجمة هذه الرسائل ورسائل أخر. لعلها تكون بداية لترجمة العمل كاملا. وأنا متيقن أنها ستسعد بذلك. وهي المعدودة على الحركة النسوية.

 

طبعا، أكتب ليلا، «شذرة من نجم في يدي» لأستعيد تعبيرك. لا أهوى الكتابة. دفعتني إليها قوة عارمة؛ لأنها مكنتني من إفراغ قناة الأسى، في بضع ساعات. لا أكتب لنفس الأسباب والغايات. كتبت قصائد، واحدة بالإنجليزية أيضا، هذا غريب. لكن وبما أنني منغمسة في قراءة كافكا وسيوران وكيركجارد، منذ بضعة أشهر، فليس ثمة ما يثير الدهشة. كتبت أيضا:
«أفل نجمي
اسود عالمي…».
مر بي الصيف خانقا كادما. أقل خلاياي مطعمة بالأسى. أنا جراب من المكابدات المختلفة. وما دمت لا أعرف للغش طريقا، فإن زملائي أثاروا حولي زوابع، من القيل والقال، هي مسلكيات هوجاء، وتصرفات قروسطية. أتابع السير على سطح هذه الأرض، لا أعرف لماذا: «ذهب عقل(ي)» هذه المفردة الفلسفية، أفسدتها العامة من الناس، وقرون من ترحال الكلمات. هذه الكلمة شديدة التركيب، والحاسمة وأخيرا، شديدة الوضوح، حين ننعم بالإدراك.
طفت حول المستشفيات، أمكنة مجهولة للشعراء والكتاب؛ لأنهم لا يرتادونها إلا مرة واحدة، عندما ينقضي العمر. أتعقب «الأسباب» التي أودت بحياة ابنتي، وعلي الذهاب إلى البيرو، ومعرفة ماذا حدث.
عبد الكبير الخطيبي، تعرف، أن وجودي تغير. هل بإمكانك تصور هذا؟ دريدا حاول معرفة كيف أن الظل والعلامة المائية le filigrane لشخص ما تستطيع، داخل زلزال، أن تزيح مركزهما، ومعناهما meaning، وإسقاطهما projection كذلك!
فقدت صديقا، «جاك بيران»Jaques perrin، وهو موسيقي، لكنه أكثر من ذلك، وهذا غير معروف عنه، كاتب سير حياة الموسيقيين، أعجبني «جاك» بما تبقى من طفلة متعجبة أمام مجاميعه الزجاجية البنفسجية والخضراء، وأنا طفلة كنت أقضي ساعات أمام المصن -وعات الزجاجية!
علمت أنه سيكرم في الرباط، بتاريخ 97.9.24، لكن ثقل الدنيا قصم ظهري، لم يعد بمقدوري أبدا أبدا الذهاب إلى الرباط. وهكذا انكمشت دائرتي، وأذهب إلى باريس باطراد حيث لم أعد أعرف سوى الزفت، عاجزة عن رفع عيني، لم أكن عرف أن بالإمكان العيش زاحفةعلى الأرض.
هكذا صار عالمي. الأحجار، النفايات، أحجار الرصف المتفاوتة عن بعضها، الرصيف، الحفر في الأرض، الزفت متصدع، والنقل على ظهر الحمار. هذا هو التناسخ métempsychose أو المسخLa Métamorphose…
أنا دويبة كافكا. تلزمني صرخة، من أعماق صدريّ، ترتج، صامتة، دون توقف، وتحولت إلى دويبة.
أجد في النوم حياتي الحقيقية: أتخلص منه، أبحث عنه. الخلاص عند نهايته، في اللاوعي. أنا راقدة. وثم الاستيقاظ. لكن لا أقدر على التحدث عنه. سيكون تعذيب السجناء، إلى حدود الصباح، فلم يستيقظوا، منهكين من فرط الجهد، والظلم، والحرارة، وكل آفة من حشرات أوطفيليات، والذباب، والعقارب مختلفة.
«لم تعد الحياة غير هذا، انقطاعات وتوقفات في سلسلات عدة»، كما كتبت أنت، بعقل الفيلسوف.
ثمة انقطاعات نتركها، دون أن تكتمل، وهذا مؤسف للغاية. أترى، وأنا حوالي الحادية عشرة من سني، أجريت لي عملية بفضل الطب الحديث؛ أبي كان متعلما، مزدوج اللسان، وفق تعبيرك، وهو ذاته…حداثي!
نجوت إذا من الموت. يا للفظاعة! صنع جسدي الانقطاع وهو لم يحترمه أحد.
أتذكر بدقة متناهية، صعود جبل صعب لحياة أطول. في حالتي المرضية، كنت مريضة للغاية لكن متشظية. كنت سأرحل كاملة. لا أعلم هل تفهم؛ إدمج؟
أنا، اليوم هذا الصرصور الذي يختبئ من الآخرين، منحدر تحت أرض متسخة، لها صديق ذو نظرة مستترة، سيقرأ هذه السفاسف ولربما يجيبني؛ لأننا نعرف بعضنا، على الأقل، منذ خمس وعشرين سنة.
لك مودة أزمنة بعيدة!
الدار البيضاء 97.9.25


الكاتب : ترجمة وتقديم: محمد معطسيم

  

بتاريخ : 10/05/2021