من رسائل غيثة الخياط إلى عبد الكبير الخطيبي : الرسالة 43: حملتني النجوم دائما نحو الشعر

«مراسلة مفتوحة» هي سلسلة رسائل كتبت ما بين دجنبر 1995 و أكتوبر 1999، بين غيثة الخياط، هي في ذات الوقت كاتبة ومحللة نفسية، وعبد الكبير الخطيبي، وهو كاتب أيضا وجامعي وباحث في العلوم الإنسانية. وهما سويا ينتميان بذلك إلى الحضارة الإسلامية ونظامها الاجتماعي الأبوي. وهي تعرض تبادلا خاصا وأكثر تفردا في العالم العربي.
«مراسلة مفتوحة» هل هو فن للصداقة، أم شكل أدبي عبر الرسائل، أم رغبة في التقاسم الفكري، أم صيغة لركوب المغامرة؟ هكذا سأل الناقد حسن وهبي صديقه عبد الكبير الخطيبي.
أجاب الخطيبي: كان لها هدف إجرائي واضح: الإعلان عن صداقة فكرية بين امرأة ورجل، في العالم الإسلامي ونظامه البطريركي. فهي أكثر منها شهادة، هذه المراسلة المفتوحة تراهن على الحقيقة الخطيرة، عبر هذا النوع من التبادل. كسر بعض المحظورات التي تكبل النقاش العمومي بين الناس، منشورا ومقروءا ومتداولا بالنسبة لإمكانات أخرى من النقاش المكبوح بين الرجال والنساء، كما يقول الخطيبي في تقديمه لهذه المراسلة.
ومن الخطأ مقارنة هذه الرسائل، بتلك المتبادلة بين مي زيادة وجبران خليل جبران؛ لاختلاف طبيعة العلاقة بين هؤلاء، بين الحب والصداقة، وبين العلاقة العاطفية والصداقة الفكرية. وهو سوء الفهم لصق بذهنية البعض. لكن غيثة الخياط نفت هذه الشبهة، ذات الهيمنة الذكورية. ولو كان الأمر صحيحا لجهرت به، كما تكرر دائما، بقدر ما جرأت على الكتابة معه، وليست عنه كما تؤكد أيضا.
انضبطت الرسائل -بلغت تسعا وخمسين رسالة- منذ البداية لمفهوم «التحاب» الذي عرفه الخطيبي، في تقديم الكتاب، كالآتي: « أقصد ب «تحاب» لغة الحب التي تثبت المحبة الأكثر نشاطا بين الكائنات، والذي يستطيع أن يمنح شكلا لتوادهم ولمفارقاته. أنا مقتنع أن محبة، من هذا القبيل، بإمكانها تحرير بعضا الفضاءات حيث تحظر المباهج بين الشركاء. مكان للعبور والتسامح، معرفة بالعيش المشترك بين الأجناس والحساسيات والثقافات المختلفة»
حرص الخطيبي على تحويل الكلام إلى كتابة رغبة منه في التوثيق، وإيمانا منه أن البقاء للأثر في مواضيع تناسب الصداقات الفكرية، ومقاومة للنسيان الذي يعتور الكلام.
مر أكثر من عقد ونصف، على صدور هذه المراسلات بين دفتي كتاب «مراسلة مفتوحة» تتأسف غيثة الخياط متحسرة على أن هذه المراسلات لم تعرف طريقها إلى لغة الضاد، وتعتبر الأمر كارثة، في حين ترجمت إلى لغات أخرى كالإنجليزية والإيطالية.
تحاول الخياط استعادة رسائلها. وقد كتبتها بخط اليد وأحيان على ورق رسمي. وقد صارت الآن إرثا لعائلته قبل أن تصير إرثا للذاكرة الثقافية لمغربية، في انتظار تأسيس «مؤسسة الخطيبي».
كتب الخطيبي مقدمة قصيرة للكتاب واختار عنوانه وناشره. لكن الخياط ستكتب مقدمتها في النسخة المترجمة إلى الإنجليزية ولم يقيض للخطيبي قراءتها لأنه كان يحتضرـ كان ذلك اليوم 16 مارس 2009.
لم تعرب الرسائل، وهم ما حز في نفس الكاتبة. واعتبرت الوضع كارثة في العالم العربي، وهو المعني بمحتواه أكثر من البلدان الأخرى. تمنت لي غيثة الخياط قراءتها بالعربية فانجذبت إلى ترجمتها، إلى اللغة نفسها. وقد أذنت لي بذلك ووافقت. كانت الخياط حافزا مباشرا لإنجاز ترجمة هذه الرسائل ورسائل أخر. لعلها تكون بداية لترجمة العمل كاملا. وأنا متيقن أنها ستسعد بذلك. وهي المعدودة على الحركة النسوية.

أشعر أنك متجدد خلال تغير الفصول؛ لأنك تسجل دائما ما ينتابك من تغيرات في هذا الزمن الذي يسير، ويجري أو يطير!
في الواقع، ليس من الجدارة في شيء ألا يكون المرء داخل السياسة. فكرت في رسالتيك الأخيرتين، ويعجبني أنك قادر على امتلاك فكر سياسي لكن، أنا، يعوزني الانسجام في هذه الفكرة «المدينة-الدولة»، وقد تعني الكلمة اليونانية المدينة وتدبيرها.
غير أنني مارست السياسة دون أن أعرف ذلك أيضا. استجوبني السيد «جوردان»: بتاريخ 22 ماي 98 بمناسبة الاحتفالات بذكرى مرور سبعين سنة على تأسيس الإذاعة والتلفزة المغربية، حيث أدركت أنني كنت في 1965، أول صوت نسائي يتحدث بالفرنسية عن الهيئة الرسمية للإعلام والثقافة السمعية البصرية.
كان ذلك قاسيا؛ لأن العملية كانت تغييرية. فتاة شابة تمسك الميكرفون، لتتكلم أولا عن الآدب! ثم عن الفن والثقافة والموسيقى-أعظم فترة لثورة الإيقاعات- وباعتبارها صوت الصحافة المنطوقة أي السياسة الوطنية والدولية!
إذا فقد كان هذا أمرا حسنا للتفكير في السياسة: أعلنت عن فظائع، المجزرة الشنيعة ل»ماي لاي» هذا البلد الفيتنامي الشهيد، وتلك التي يتعرض لها الفلسطينيون، عزل رؤساء الدول، المفاوضات…كما عرفت بالتحولات الجذرية في المغامرة الإنسانية، غزو الفضاء، وهبوط أبولو 8!
وبالموازاة مع هذا هيأت دراسات صعبة: في الطب.
وقمت بأشياء بوصفي الأولى: أول امرأة طبيبة نفسانية. فممارسة «طب المجانين» أمر مروع، لا أحد يفهم والكل يضحك. اليوم هناك وفرة.
أول امرأة متخصصة في طب الشغل: ضغط قوة الباطرونا في 1974، هو ما زاولته قليلا، في هذا المجال، حيث اكتسبت بفرنسا، تكوينا استثنائيا بفضل كفاءة أساتذتي. أفكر مجددا في ذلك الحوار الذي أجريته معك على التلفزيون حين صدور كتابك «الذاكرة الموشومة»، أظن…وأقول لنفسي إنها كانت منجزات إبداعية ثورية مجددة.
لأتوقف إذا عن سرد هذه السيرة الذاتية لأحتفظ بكل التوريط الذي بمقدورك فهمه، بعيش هذه الأزمنة من البطولات.
أردت في الواقع أن أحدثك عن نظريات تحكم الكون في الفيزياء الفلكية. فذات ليلة أجبرني الأرق على قراءة كتاب حول الموضوع.
طالما أملك بضع معارف علمية استطعت إتمام الكتاب بعناء؛ لأن الميكانيكا الكوانتية هي صعبة للغاية حتى إن الأعداد حيث نذهب، من مادة الكواكب، هي بقياسات تنفلت من دماغنا، مثال 10100، 10أس 10مثل قولك حدود اللانهائي بالنسبة لامتدادنا.
اكتسبت معطيات مذهلة وهائلة وغير محدودة. ماذا أفعل بها؟ من الغريب، أنه كان لي نقاش عميق مع أحد الفلكيين الفيزيائيين، K.C الذي يعجبني كثيرا؛ لأنه كان ناقش مع «عيني» عن قرب تساؤلاتها. وهي ذات الأربع سنوات سألتني:
«ماذا يوجد عند نهاية كرات الكرات لكل الكرات؟»
كان نقاشنا مرهقا؛ لأنني طرحت عليها الأسئلة التي لا يطرحها أحد، بوضع زاوية قائمة، الفلك الفيزيائي نحو الأعلى وامتدادي أفقيا.
كان من الحوارات الأساسية في حياتي، في التحاب؛ لأن خ. وديع وهادئ…وشاعر. يذكرني تذكرة! غريبة ب «عيني»!
كشف لي أنني لم أكن إلا دعامة مادية، لكائن قدم من عالم آخر، والذي ذهب إلى عالم أبعد أيضا. صديقي، حملتني النجوم دائما نحو الشعر؛ لأنه لا شيء أقرب للسماء من الشاعر…الكتاب حول الكون المنشور بفرنسا لا يذكر أي عربي أو مسلم في مجال الاكتشافات أو الأشغال. وفي مقابل ذلك فإن جمله الأخيرة، تنقيطه النهائي هو رباعية لعمر الخيام:
«بأول طين للأرض كونوا آخر عجينة للإنسان
ومن آخر الحصاد نثروا البذور
لقد خط فجر الخليقة الأول
ما سوف يقرأه الغروب الأخير للحياة» (القرن الحادي عشر.
كان الخيام فلكيا وشاعرا. لكن أين ذهب نبوغنا؟ عدا قراءة قصيدة لطفلة ذات تسع سنوات:
الزمن وأزهاره في الأيام الماضية
الزمن وصدفاته الثلجية…
ما الزمن إلا لحظة عابرة
وبعد الزمن لا نعثر أبدا إلا على حطام(ات)…
عيني بناني 2 مارس 91
الخطأ الإملائي الوحيد هو علامة الجمع التي تعين حطامات
(بتعريبها، منذ فترة، فقدت القصيدة من قوتها: لربما بإمكانك القيام بذلك؛ لأنه على المرء أن يكون «مزدوجا» مثلك لمضاعفة فكرها)
صديقي خ. يقوم بأبحاث حول الزمن، ودعا إلى التفكير في القصيدة التي عثرت عليها بالصدفة وأنا أفتش عن شيء آخر …
لا أدري إذا كانت السماء والقمر والشمس تلاحقك غير أنني واثقة من ذلك؛ لأن نظرتك تثبت لي هذا؛ إنها وديعة وبعيدة المدى.
أتذكر «سان إكسبيري» و الأمير الصغير» ﺈﻨﻙ ﺇﻥ ﺃﺤﺒﺒﺕ ﺯﻫﺭﺓ ﻓﻲ ﻨﺠﻤﺔ ﻭﺠﺩﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﻅﺭ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ، ليلا، ﻟﺫﺓﹰ ﻭﺴﺭﻭرا!»
وأرفع عيني إلى القبة الزرقاء، اللفظ «شعري» لأقول …السماء.
لكن يتبدى جيدا أن في كل هذا ثمة الكثير من التحاب.
البارحة سقطت الأمطار بالدارالبيضاء و»أمي تسقط على الأرض» …لأن اسمي غيث(مطر)، ويسعدني أن شامة ]ابنة الخطيبي] ترسم الأسماء الشخصية!
الدارالبيضاء 98.5.24


الكاتب : ترجمة وتقديم: محمد معطسيم

  

بتاريخ : 16/04/2021