من رسائل غيثة الخياط إلى عبد الكبير الخطيبي 5 : الرسالة 53: جميع الكائنات تطرح نفس الأسئلة تقريبا، بصورة جيدة، وبغرابة إلى حد ما

«مراسلة مفتوحة» هي سلسلة رسائل كتبت ما بين دجنبر 1995 و أكتوبر 1999، بين غيثة الخياط، هي في ذات الوقت كاتبة ومحللة نفسية، وعبد الكبير الخطيبي، وهو كاتب أيضا وجامعي وباحث في العلوم الإنسانية. وهما سويا ينتميان بذلك إلى الحضارة الإسلامية ونظامها الاجتماعي الأبوي. وهي تعرض تبادلا خاصا وأكثر تفردا في العالم العربي.
«مراسلة مفتوحة» هل هو فن للصداقة، أم شكل أدبي عبر الرسائل، أم رغبة في التقاسم الفكري، أم صيغة لركوب المغامرة؟ هكذا سأل الناقد حسن وهبي صديقه عبد الكبير الخطيبي.
أجاب الخطيبي: كان لها هدف إجرائي واضح: الإعلان عن صداقة فكرية بين امرأة ورجل، في العالم الإسلامي ونظامه البطريركي. فهي أكثر منها شهادة، هذه المراسلة المفتوحة تراهن على الحقيقة الخطيرة، عبر هذا النوع من التبادل. كسر بعض المحظورات التي تكبل النقاش العمومي بين الناس، منشورا ومقروءا ومتداولا بالنسبة لإمكانات أخرى من النقاش المكبوح بين الرجال والنساء، كما يقول الخطيبي في تقديمه لهذه المراسلة.
ومن الخطأ مقارنة هذه الرسائل، بتلك المتبادلة بين مي زيادة وجبران خليل جبران؛ لاختلاف طبيعة العلاقة بين هؤلاء، بين الحب والصداقة، وبين العلاقة العاطفية والصداقة الفكرية. وهو سوء الفهم لصق بذهنية البعض. لكن غيثة الخياط نفت هذه الشبهة، ذات الهيمنة الذكورية. ولو كان الأمر صحيحا لجهرت به، كما تكرر دائما، بقدر ما جرأت على الكتابة معه، وليست عنه كما تؤكد أيضا.
انضبطت الرسائل -بلغت تسعا وخمسين رسالة- منذ البداية لمفهوم «التحاب» الذي عرفه الخطيبي، في تقديم الكتاب، كالآتي: « أقصد ب «تحاب» لغة الحب التي تثبت المحبة الأكثر نشاطا بين الكائنات، والذي يستطيع أن يمنح شكلا لتوادهم ولمفارقاته. أنا مقتنع أن محبة، من هذا القبيل، بإمكانها تحرير بعضا الفضاءات حيث تحظر المباهج بين الشركاء. مكان للعبور والتسامح، معرفة بالعيش المشترك بين الأجناس والحساسيات والثقافات المختلفة»
حرص الخطيبي على تحويل الكلام إلى كتابة رغبة منه في التوثيق، وإيمانا منه أن البقاء للأثر في مواضيع تناسب الصداقات الفكرية، ومقاومة للنسيان الذي يعتور الكلام.
مر أكثر من عقد ونصف، على صدور هذه المراسلات بين دفتي كتاب «مراسلة مفتوحة» تتأسف غيثة الخياط متحسرة على أن هذه المراسلات لم تعرف طريقها إلى لغة الضاد، وتعتبر الأمر كارثة، في حين ترجمت إلى لغات أخرى كالإنجليزية والإيطالية.
تحاول الخياط استعادة رسائلها. وقد كتبتها بخط اليد وأحيان على ورق رسمي. وقد صارت الآن إرثا لعائلته قبل أن تصير إرثا للذاكرة الثقافية لمغربية، في انتظار تأسيس «مؤسسة الخطيبي».
كتب الخطيبي مقدمة قصيرة للكتاب واختار عنوانه وناشره. لكن الخياط ستكتب مقدمتها في النسخة المترجمة إلى الإنجليزية ولم يقيض للخطيبي قراءتها لأنه كان يحتضرـ كان ذلك اليوم 16 مارس 2009.
لم تعرب الرسائل، وهم ما حز في نفس الكاتبة. واعتبرت الوضع كارثة في العالم العربي، وهو المعني بمحتواه أكثر من البلدان الأخرى. تمنت لي غيثة الخياط قراءتها بالعربية فانجذبت إلى ترجمتها، إلى اللغة نفسها. وقد أذنت لي بذلك ووافقت. كانت الخياط حافزا مباشرا لإنجاز ترجمة هذه الرسائل ورسائل أخر. لعلها تكون بداية لترجمة العمل كاملا. وأنا متيقن أنها ستسعد بذلك. وهي المعدودة على الحركة النسوية.

 

م.م: يبدو لي كما لو أن هذه الرسالة كتبت إلي أيضا!…
غ.خ: يفرحني كثيرا أن تكون هذه الرسالة راقتك كما لو كتبت إليك! إنها كذلك!!!!

باريس، 28/2 و9/3/99
صديقي العزيز،
أكتب إليك بدافع شديد، دافع الكتابة إلى من يمنح معنى وحياة لهذه الآثار من المداد، ولهذه الرموز الجريحة. أكتب إليك بين صراعين، ووفاتين، وانتصارين، وكل الشكوك.
حكيت لي عن المطر والمحيط، سجل حافل من حلمك، وقد وصل إلي. أنا في باريس، باريس القاسية، الشعثاء، المذهلة. باريس التي شكلتني أكثر من الرباط، مسقط رأسي ومرتع يفاعتي، وهو ما أسررت لك به؛ وبالتالي فأنت تعرف ذلك جيدا. لا أجرؤ على القول إن باريس مازال لها فضل علي. أعرف جيدا أن هناك كما لا يتوقف من الحفلات… والكتب، ودور الأوبرا، والباليه. تخمد حياتي الشرهة: أنا اليوم أفضل النظر إلى الاحمرار الطافح، على وجه متشرد في ريعان شبابه، ما زال يمتص جرعة الجعة العالقة بقارورته المتهالكة. إن هذا يؤلمني. لا أملك إلا أن أصرف بصري وأنصرف.
بدوت لي سعيدا مرحا في رسالتك السابقة. إنني أجهل سر ذلك. ابتهجت كثيرا عندما تتحدث عن الأسلحة والحنين. أتصورك إنسانا سعيدا بل تعيسا، حالما بل أكثر حضورا، وتريد إثارة إنسانيتنا نحن الإثنين، حتى يكون لهذه الرسائل معنى واتساقا، وتدفع إلى إحداث الصدق بيننا، وحتى يضيف إليك شيئا هذا التبادل المتعاقب الداخلي، ويغذيني أنا أيضا.
جاءت رسالتك ممهورة بنوع من الرقة والدعة، وقليل من الحزن في الأسئلة المعلقة التي تطرحها، والتي هي أصلا أجوبة.
جميع الكائنات تطرح نفس الأسئلة تقريبا، بصورة جيدة، وبغرابة إلى حد ما. تحدثت مع رجال ونساء كثيرين، هنا، كثير من العارفين والشباب التلقائي. أنا أملك بالتأكيد خصلة جعل الناس يتحدثون وإجبارهم على «الجواب». هذه الكلمة المدهشة تنفتح على إمكانات فظيعة أو مأساوية.
«الجواب» عن موهبتهم، ومسؤوليتهم، وطفلهم للطبيب، والقاضي والله.
لكن كومة القش من العواطف الحادة جدا، خصصت ساعات طوال ل»سيوران» ومن المرجح، أن علي قراءة أعماله. فزعت لوفاة شخصين. مخرجة فرنسية «كريستين باسكال» التي وقعت عملا عبقريا. انتحرت وعمرها اثنان وأربعون. و»سارة كان» وهي كاتبة مسرحية انجليزية، عرضت ضمن كبار المسرحيين. انتحرت هي الأخرى في بداية فبراير 99. ثمانية وعشرين عاما. ولم يطاوعني قلمي إلا عند هذه السن وموهوبة مثل الكبار، امرأة شابة آثرت الرحيل. هاتان المرأتان تثبتان أن النجاح والموهبة أضعف من أن يحصننا من المعاناة. ربما كانتا مفرطتين في جمالهما؟ أو بالأحرى جميلتين جدا؟
كانتا ترعبانني وتفتنانني. لكن أفضل أن أتوجه إليك أنت فالمطر والمحيط والحيوانات لها دلاتها، مسارح الأنوار للشخصيات المفعمة بالحيوية.
سؤالي هو: لماذا تعاني الكائنات البشرية أكثر؟ لماذا تعاني إلى هذه الدرجة من السخط، في عصر يوفر كل شيء، إن لم تكن سعادة ف»هناء». كنت سأكتب هادئة. ابتسمت. يبدو جيدا أن دورة الحياة غدت أكثر من أي وقت مضى محفزة وعدوانية سريعة وعجلى. علينا إعادة قراءة منجز المهاتما غاندي. لكن هل ترك فعلا كتابات؟ لنواصل الكتابة إذا، يا صديقي فما أحوج العالم إلى ذلك! فهذا سيسجل في قطرات المطر ! «أمي تسقط على الأرض» قالت. – بحكم اسمي غيثة (من الغيث) كانت ابنتي تعرف ذلك. وعندما يسقط المطر كانت تقول لي: «أمي تسقط على الأرض»-
غيثة
ملحوظة: لا أستطيع أن أبعث لك هذه الرسالة من فرنسا عبر البريد: علي أن أتأكد في الدارالبيضاء هل صندوقك البريدي هو 648 أم 746؟ لعبة أرقام ومواقع.


الكاتب : ترجمة وتقديم: محمد معطسيم

  

بتاريخ : 19/04/2021