من رسائل غيثة الخياط إلى عبد الكبير الخطيبي 6- الرسالة 19: كل يوم هو معركة متوجة بالنصر

«مراسلة مفتوحة» هي سلسلة رسائل كتبت ما بين دجنبر 1995 و أكتوبر 1999، بين غيثة الخياط، هي في ذات الوقت كاتبة ومحللة نفسية، وعبد الكبير الخطيبي، وهو كاتب أيضا وجامعي وباحث في العلوم الإنسانية. وهما سويا ينتميان بذلك إلى الحضارة الإسلامية ونظامها الاجتماعي الأبوي. وهي تعرض تبادلا خاصا وأكثر تفردا في العالم العربي.
«مراسلة مفتوحة» هل هو فن للصداقة، أم شكل أدبي عبر الرسائل، أم رغبة في التقاسم الفكري، أم صيغة لركوب المغامرة؟ هكذا سأل الناقد حسن وهبي صديقه عبد الكبير الخطيبي.
أجاب الخطيبي: كان لها هدف إجرائي واضح: الإعلان عن صداقة فكرية بين امرأة ورجل، في العالم الإسلامي ونظامه البطريركي. فهي أكثر منها شهادة، هذه المراسلة المفتوحة تراهن على الحقيقة الخطيرة، عبر هذا النوع من التبادل. كسر بعض المحظورات التي تكبل النقاش العمومي بين الناس، منشورا ومقروءا ومتداولا بالنسبة لإمكانات أخرى من النقاش المكبوح بين الرجال والنساء، كما يقول الخطيبي في تقديمه لهذه المراسلة.
ومن الخطأ مقارنة هذه الرسائل، بتلك المتبادلة بين مي زيادة وجبران خليل جبران؛ لاختلاف طبيعة العلاقة بين هؤلاء، بين الحب والصداقة، وبين العلاقة العاطفية والصداقة الفكرية. وهو سوء الفهم لصق بذهنية البعض. لكن غيثة الخياط نفت هذه الشبهة، ذات الهيمنة الذكورية. ولو كان الأمر صحيحا لجهرت به، كما تكرر دائما، بقدر ما جرأت على الكتابة معه، وليست عنه كما تؤكد أيضا.
انضبطت الرسائل -بلغت تسعا وخمسين رسالة- منذ البداية لمفهوم «التحاب» الذي عرفه الخطيبي، في تقديم الكتاب، كالآتي: « أقصد ب «تحاب» لغة الحب التي تثبت المحبة الأكثر نشاطا بين الكائنات، والذي يستطيع أن يمنح شكلا لتوادهم ولمفارقاته. أنا مقتنع أن محبة، من هذا القبيل، بإمكانها تحرير بعضا الفضاءات حيث تحظر المباهج بين الشركاء. مكان للعبور والتسامح، معرفة بالعيش المشترك بين الأجناس والحساسيات والثقافات المختلفة»
حرص الخطيبي على تحويل الكلام إلى كتابة رغبة منه في التوثيق، وإيمانا منه أن البقاء للأثر في مواضيع تناسب الصداقات الفكرية، ومقاومة للنسيان الذي يعتور الكلام.
مر أكثر من عقد ونصف، على صدور هذه المراسلات بين دفتي كتاب «مراسلة مفتوحة» تتأسف غيثة الخياط متحسرة على أن هذه المراسلات لم تعرف طريقها إلى لغة الضاد، وتعتبر الأمر كارثة، في حين ترجمت إلى لغات أخرى كالإنجليزية والإيطالية.
تحاول الخياط استعادة رسائلها. وقد كتبتها بخط اليد وأحيان على ورق رسمي. وقد صارت الآن إرثا لعائلته قبل أن تصير إرثا للذاكرة الثقافية لمغربية، في انتظار تأسيس «مؤسسة الخطيبي».
كتب الخطيبي مقدمة قصيرة للكتاب واختار عنوانه وناشره. لكن الخياط ستكتب مقدمتها في النسخة المترجمة إلى الإنجليزية ولم يقيض للخطيبي قراءتها لأنه كان يحتضرـ كان ذلك اليوم 16 مارس 2009.
لم تعرب الرسائل، وهم ما حز في نفس الكاتبة. واعتبرت الوضع كارثة في العالم العربي، وهو المعني بمحتواه أكثر من البلدان الأخرى. تمنت لي غيثة الخياط قراءتها بالعربية فانجذبت إلى ترجمتها، إلى اللغة نفسها. وقد أذنت لي بذلك ووافقت. كانت الخياط حافزا مباشرا لإنجاز ترجمة هذه الرسائل ورسائل أخر. لعلها تكون بداية لترجمة العمل كاملا. وأنا متيقن أنها ستسعد بذلك. وهي المعدودة على الحركة النسوية.

 

يا أعز صديق،
«إنني توصلت برسالتك من ستراسبورغ، ثم ابتسمت: فكثيرا ما فاتتني فرصة زيارتها، وفي كل مرة، تحول بيني وبينها استحالة منيعة! وهذا ما حدث لي أيضا مع بريطانيا، أراض مؤجل وطأها، في تمديد لا يتوقف. كنت قلقة لجولتك ب»أليبي» Alibi، بلد الإقامة الاختيارية والميلاد لأحد أفضل أصدقائي. فأصدقاؤنا يستطيعون أن يتلاقوا إذا، في تحاب الأمكنة! وصلتني البطاقة التي تحمل إشارة الكاتدرائية هذا الصيف، والتي سبق أن حدثتني عنها ليحمل درجة أملي عالية جدا، في هذا الصيف البغيض…غير أنني أستدرك، وأقاوم، أحب الحياة، في غمرة الحياة، وهذا يزيدني رفعة. كل يوم هو معركة متوجة بالنصر، والتحاب يسند كتفي الأشد ضعفا، ويفتح ثانية أجفاني المهزومة، داخل ابتسامة بئيسة تتراءى في خضرة عيني ع…
«أحب» رسائلك؛ لأن لا شيء يصدمني في محتواها، فلربما بسبب عددها. لا أقدر على أكون مصطدمة، وحيوانا مرهف الإحساس، وكائنا من حزمة أحاسيس فقط، وعاجزة عن الدفاع عن النفس. أحببت لو كان لدي أشواك القنفد وقوقعة السلحفاة وصدفة الحلزون ومخالب القط ووثبة الغزالة. لأتوقف هنا عند «تاريخ الحيوانات»؛ لأن حبي لها جم …ولع!
الدارالبيضاء 96.11.12
و …لاحقا

الرسالة 23: ماذا أكتب لك؟
ماذا أكتب لك؟
لا شيء مما لا تعرضه، ولا تتمكن منه.
أنا في حاجة إلى مكاتبتك، ولا أدري سر ذلك، فجأة وبوفرة.
رحلت هذه المخلوقة الجليلة. وأنا كوازيمودو بظهر مكسور، وبصوت أبيض، وبيدين هزيلتين، وحش يعيش على الرعب.
الزمن شاحب.
الأرض عجفاء.
عيناي تقاتلان طاقة متكررة كل يوم، نفس الكثافة، والكآبة، الجحيم.
الآخر هو هناك إلى أقصى حد، عديم الفائدة ومزعجا؛ تكتمه هو أيضا أكثر رهبة من اقتحامه.
أنتظر.
أرى.
أتكلم وأسقط ثانية.
أنتطر، أرى.
أتكلم وأسقط ثانية.
سيزيف ذي المكان الصغير، برميل بنات الملك «دانوس»، الملك ميداس، «سامسون» المقصوص الشعر، رابعة العدوية، ماري نوار، سانتا غوادالوبي.
«لا أحد يعود أبدا»، كتبت فريدة خالو.
أما أنا فأقول: «أبدا وأكثر»، مصلوبة حية أدور بدون هدنة على عجلة من العذاب.
الذباب، الغثيان، الأيادي القذرة.
الدارالبيضاء
2.27. 97
الرسالة 45: لم يتح لي العالم الثالث أن أغدو عالمة مكتملة
يا صديق،
يفاجئني «التزامك»، غير أنه لا يطرح لدي مشكلا. من الواضح وضوحا تقريبا، أن كل مثقف هو كائن سياسي للغاية، أكثر من العالم أو الفنان…يسوق الفنان أعماله في أحايين كثيرة، ولا يقدر أهميته الاجتماعية وقدرته على الالتزام. العالم هو ممارس لا يضع في حسبانه إلا العلماء من مستوى عال، مؤهلون لصناعة خلاصات واستنتاجات لوسطهم وللإنسانية جمعاء.
لذا أتسرع في الواقع للانضمام إلى فكرة مشاركتك وانخراطك. عند ملتقى كل هذه الطرق، أعرف نفسي بوصفي مثقفة قبل كل شيء. لم يتح لي العالم الثالث أن أغدو عالمة مكتملة أي مؤهلة لإنتاج العلم؛ لكنه لم يمنعني صوريا من التفكير إذا؛ لإضفاء الطابع الفكري للمثقف على سلوكي، وعلى وجودي ووجود الآخرين. ومن الواضح جدا أن كون المرء مثقفا، يعني التدافع والمسارعة والقلب أو العكس. كل السيرورات ذات الصلة بالسياسة. إذا هذا مستحيل. وهذه الاستحالة ناجمة عن موقف كبير من المعاناة في صمت.
غير أن هنا لا يكمن المشكل إلا فيما تعتقده وتفهمه من نهجي في التحفظ. هو رهين بالعلوم الإنسانية أيضا؛ لأن ما الذي يدير والمجموعات والجماعات إذا لم تكن أساليب الخلافات، فيما بين الأفراد وغيرهم من المندمجين؟ إن المفكرين الملتزمين يجذبونني. كلهم، عمليا، رجال. فترات «سيمون فايل» (الفيلسوفة)، «روزا ليكسمبورغ»، «ألكسندرا كولنتاي» و«أنجبلا دفيس» هي فترات إقصاء. لا تخفى أهمية الاستماع إلى «ريجيس دوبراي « في المغرب. و»ألبير جاكار « وآخرين كثار.
غير أن المواقف السياسية الصارمة هي مستحيلة، في كثير من الأحيان، وتنحصر في تجسيد شعبي مشبوه. أفكر هنا في «بابلو نيرودا» و»فاكلاف هافيل».
ملحوظة:

تحدثنا عن «الذاكرة الموشومة» في التلفزيون. كان ذلك من بين برامجي الأولى على شكل «بيفو»! رفقة شريك، وعلى بلاطو واحد، وبدون وسائل إلا من صور تكاد تكون ثابتة وكلمات. في 1971…أعدنا الحلقة مرتين؛ لأنك لم تكن راضيا عن التسجيل الصوتي. أعدناه في بيتك، إذا لم تخني الذاكرة. فقد كنت تقطن قريبا من محطة الرباط المدينة. إنها لخسارة أن يتعرض هذا الغنى السمعي-البصري للضياع. وهو آمر وارد جدا…
12.6.98


الكاتب : ترجمة وتقديم: محمد معطسيم

  

بتاريخ : 20/04/2021