«عينان بسعة الحلم» تنظران إلى الشّرَك قبل الحبّة
أبعد من القوس، أقرب من الفراشة، لانزال ولايزال الوضع كما هو عليه.
أيهما انتصر على الآخر؟ الصحفي والسياسي أم المبدع؟
أكاد أجزم أن الذي انتصر عليهما هما الاثنين، كان الإنسان.
الإنسان الذي أفرد لـ»عين العقل» أن ترى أبعد من السطح، أن ترى في المرئي، اللامرئي؛
أن ترى من كل الجهات، وفي آن واحد.
«عين العقل» التي ترى الشرَك قبل أن ترى الحبّة.(1)
من الأدب إلى الصحافة، ومن الصحافة إلى الأدب، عرجت الدروب بمحمد الأشعري على السياسة التي دخلها خالص الطوية وخرج منها بقلب سليم، قابضا على جمر المبدأ، «زاهدا في مضى».
الأشعري السياسي احتفظ لنفسه بقسط من الشاعر حتى لا يتحول إلى مرتزق بشكل من الأشكال، والأشعري الشاعر ظل طيلة مساره الإبداعي ، في الشعر والرواية والقصة، وفي الصحافة أيضا، منصتا إلى نبض اليومي ولانشغالات الإنسان وقلقه حتى وقد خلع بردة السياسي وعاد إلى نبعه الأصلي، إلى «العين القديمة».
جرت مياه كثيرة تحت جسر السياسة والصحافة، مياه ضحلة في أغلبها، وتراجع دور الصحافة الجادة وسط سيل الرداءة وضجيج الميكروفونات بعد أن انفصل أغلبها عن تبني المطالب الحقيقية والجوهرية للمواطن التي ميزت الصحافة المغربية التي نشأت في كنف السياسة وترعرعت في قلب معاركها قبل فترة الاستقلال وبعدها، وشكلت في فترة ما يسمى بسنوات الرصاص نبض الحياة السياسية وترمومتر حرارة الحراك السياسي والاجتماعي لما كان يميز طرحها لقضايا حقوق الإنسان والمسألة الديمقراطية والاجتماعية من جرأة جعلتها سلطة مضادة، يقودها صحفيون / مناضلون بتدافع فكري وإيديولوجي يتبنى خطابا تؤطره تيارات فكرية متعددة الروافد، حاملة لمشروع مجتمعي واضح المعالم يروم بناء الإنسان وإرساء مجتمع ديمقراطي.
ضمن هذا الإطار العام خاض الشاعر والروائي محمد الأشعري تجربته الصحافية، كما السياسية، بعمق فكري ومرجعية ثقافية وإبداعية هو القادم من الأدب إلى الصحافة حيث لا يمكن للتاريخ الصحافي للأدب إلا أن يوضع في صلب الذهنيات والسياسة والخيال، وحيث هناك لحظات في الصحافة لا يمكن الاحتماء منها إلا بالإبداع ومجاراة الخيال اتقاء أورام المهنة الكثيرة.
بهذا العمق التحليلي والجرأة في الكتابة والنقد، برز اسم محمد الأشعري ضمن جيل الصحفيين الذين شيدوا أسس العمل الصحفي بالمغرب انطلاقا من تصور يؤمن بالصحافة مجالا محوريا للثقافة وللموقف، وضمن هذا التصور أيضا اندرج اشتغاله في الصحافة الثقافية التي اشتغل فيها لسنوات مشرفا على الملحق الثقافي لجريدة «الاتحاد الاشتراكي»، متتبعا للحياة الثقافية المغربية، مثيرا أسئلتها وإشكالاتها، في زمن كانت الصحافة الثقافية دينامو محركا للحياة السياسية وشهدت على إثر ذلك ملاحقات وتضييقات خاصة على الصحافة الحزبية التي كانت، أنذاك، مشتلا وحاضنة للمثقفين الحاملين بجانب مشروعهم السياسي، مشروعا لا يفصل بين الحرية والإبداع، وبين التحديث والديمقراطية.
لقد استطاع الأشعري الاصطفاف في عمله الصحفي إلى جانب الالتزام بقضايا الفكر والإبداع، بقضايا الشأن العام وبالقضايا الإنسانية العادلة في العالم ، مؤمنا بأن المبدع ليس منتج نصوص فقط، بل منتج مواقف وقيم. وهذا الالتزام لا يمكن فهمه إلا ضمن سؤال المرجعية لكونه سؤالا مهما في الكتابة، سواء كانت صحفية، فكرية أو إبداعية.
في عمود» عين العقل»، وإن كان يصدر عن موقف حزبي سياسي آنذاك
إلا أن ثقافة محمد الأشعري ومحصلات قراءاته الفكرية والإبداعية، وحس الشاعر والمبدع الحر جعله يحتفظ بهامش حريته، وبهامش إبداعي، وقاه طيلة عمله الصحفي من الاندغام الكلي في جبة السياسي المنضبط للقرار الحزبي، ومن استنزاف الصحافة للمبدع داخله.
إن التخوف من التهام الصحافة للمبدع يأتي من الجدع المشترك بينهما وهو اللغة، فالصحفي المبدع يعرف كيف يصنع شاعريته من اللغة لأن العمق هو الذي يصنع الفارق في اللغة بغض النظر عن شاعريتها في الأدب وتقريريتها في الصحافة. وربما تلك مزية الصحفي المبدع الذي يحيي نفسه، عند الضرورة، بمجاراة الخيال.
حينما انحسر الأمل السياسي في الانتقال الديمقراطي ، وتبخر سراب التناوب، ظل الأشعري ضمن قلة قليلة من المثقفين والمبدعين وفيا للثقافة ، مؤمنا دائما بأنها لن تقدم له خلاصا ولا للمجتمع حلولا سياسية. لقد اتخذها أسلوب حياة وطريقة وجود، ووسيلة لاكتشاف العالم من جديد لهذا ظل أكثر حصانة من الانهيار رغم كل اليأس الذي اعترى كثيرين من مناضلي ومثقفي مرحلة ما بعد السبعينات. لقد استطاع تحويل هذا اليأس الرمادي إلى جرأة والعودة إلى نبعه الأصلي وعناصر الحياة اليومية ليصوغ منها تجربة جمالية متحررة من أثقال السياسي وحساباته.
حقا، لم يعد الأشعري الشخص نفسه بعد العاصفة، ولهذا السبب وحده» كما يقول موراكامي»كانت العاصفة».
وها قد وعدتنا العاصفة، وربحنا شاعرا وروائيا يكتب بـ»عينين بسعة الحلم»، ويدون دفاتر الخسران، ييبس أوراق حزننا على «جدران مائلة» بعد أن قرر تطليق السياسة ،»كما يقول في روايته «العين القديمة»:
«أنا لا دخل لي في الموضوع، الثوري الفاشل يتنازل لكم عن القطار والسكة».
يؤمن الأشعري بأن الكتابة أكثر رحابة من الفعل السياسي، وأكثر تجسيدا تجسيد مفهوم الحرية والإبداع، وفي نفس الوقت يصر على صورة المثقف العضوي المنغرس في تربة واقعه، والحامل لبذرة التغيير من أجل ترسيخ قيم الحرية والعدالة في المجتمع، حتى من داخل العملية السياسية، ناقدا لها أو منخرطا في معمعانها .
وعمود «عين العقل» على الصفحات الأولى لجريدة «الاتحاد الاشتراكي» منذ أول صدور له في 9 دجنبر 1990، لم يكن تعليقا على حدث آني عابر، رغم أهمية التعليق، أو تأويلا لحظيا لأحداث مضت، بقدر ما شكل وثيقة مرجعية هامة عن تاريخ المغرب السياسي وتاريخ اليسار ومعاركه مع السلطة، خاصة حزب الاتحاد الاشتراكي ما قبل مرحلة التناوب، أي مرحلة التسعينات التي شهدت زخما نضاليا قويا على المستوى السياسي والنقابي والاجتماعي، بالإضافة إلى بزوغ بوادر الإصلاح السياسي والحقوقي، ومبادرات طي صفحة الماضي بإنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة والهيئة المستقلة لتعويض ضحايا الاختفاء القسري ، إلا أن الهم الداخلي لم يكن ليشغل صاحب عمود «عين العقل» عن محيطه الإقليمي والعربي والدولي وأوله القضية الفلسطينية ومسارات السلام المتعثرة، الحرب على العراق، الأحادية القطبية، المغرب العربي، الهجرة…
عمود «عين العقل» ربما طغت على مواضيعه صبغة السياسي والاجتماعي، لكنه احتفظ لنفسه بذلك الشغف باللغة الذي يميز كتابات الأشعري الإبداعية. فالمراس في الكتابة جعل الصحافي، والمبدع داخله، يتعامل مع اللغة بتجاوزها أحيانا نحو ابتكار أشياء جديدة مخلخلة، أشياء فيها بعض من ملامحه في الحياة والكتابة، يُطرّي بها تقريرية اللغة الصحفية، ويُجَمِّل واقع المرارة والقبح الذي تنقله أحيانا بشاعرية مفرطة في الهشاشة، وأحيانا بسخرية مضحكة حد الألم، يكتبها بقلم حاد القسمات.
خيبات حملها الأشعري
من «عين العقل» إلى «العين القديمة»
لم يكن الأشعري يكتب فقط بـ»عين العقل»، كان يكتب «بعينين بسعة الحلم» وينظر من» العين القديمة» بنظرة استشرافية لما سيأتي، ببصيرة نفاذة أثبتت بعد أكثر من 30 سنة مصداقيتها وصوابية تحليلاتها وتخوفاتها.
لقد دق الأشعري مبكرا في «عين العقل»، ومنذ بداية التسعينات، ناقوس الخطر المحدق بالمسلسل الديمقراطي في المغرب، وبسط عوائق تنزيله وتحقيق الانتقال الديمقراطي الذي عُوِّض في ما بعد بالمفهوم الجديد للسلطة، و أثار تراجع أولوية الإشكالية الديمقراطية التي حصرت في المسلسل الانتخابي وتعويض ضحايا الاختفاء والاعتقال، لافتا إلى اختفاء مفاهيم كبرى مُؤسِسة أطرت النقاشات الكبرى لمرحلة ما قبل التناوب من قبيل التراضي والتوافق الذي أسيء فهمه وبالتالي تدبيره، وعليه لم تتمكن الأحزاب من تحقيق إجماع حول التوافقات الوطنية الكبرى. يقول الأشعري بهذا الخصوص في عموده «عين العقل» ( 10 فبراير1998):
«إن كل انتقال»ناقص» سيجعل من التغيير مشروعا أكثر هشاشة» ص: 734 ، ليضيف في الصفحة 277 «التراضي لا يمكن أن يتحول إلى إرضاء لحراس الصفحة الماضية. لا يمكن أن يكون «رضى بالمقسوم». لا يمكن أن يكون قسمة هندسية عادلة لتفاحة الديمقراطية» (24 يونيو 1992).
لقد أسهب الأشعري في بسط مكامن الخلل منذ بداية الانفراج السياسي نهاية التسعينات حتى لا تسقط التجربة الانتقالية بين مخالب الفشل، محذرا من الأعطاب الداخلية داخل البنيات السياسية لأحزاب اليسار وانغلاقها أمام التحولات المجتمعية، وفشل الخطاب الحزبي في بناء شرعية مرتكزة على واقعية سياسية بدل الاتكاء على الشرعية التاريخية فقط، ثم لفت مبكرا الى مآزق خطاب الكتلة الديمقراطية حيث يقول في ص557 من العمود(27 فبراير 1996):
«ولمن أراد المضي بعيدا في التحليل ومضغ الهواء أن يستنتج، دون كبير عناء، أن الكتلة لم تعد ضرورية، والتناوب لم يعد مستعجلا، والإصلاح السياسي لم يعد أولوية الأولويات».
كان خطاب «عين العقل» حينها يرى اللامرئي في المرئي، ينظر بعين الريبة الى مسار الانتقال الذي يحمل بذور فشله في جيناته ، مبديا تخوفه من غموض المرحلة:
«المهم ألا نمسح السبورة لنعيد كتابتها من الأول، وبنفس الكلمات»463 (15 يوليوز 1994).
وهو نفس التخوف الذي عبر عنه «مسعود» بطل «العين القديمة» وهو يعلق على حديث ابنته:
«عندما يسمع منى تقول بثقة ساذجة إن البلاد خرجت من «القمقم»، يضحك الآخر ويقول إن البلاد سترجع إليه مطواعة عندما تتعب من الكذب» ص86، مضيفا: «هذه الفرجة المرتجلة تبيعهم وهم الولادة الجديدة، وتشتري منهم أربعين سنة من الوجود العسير» ص85.
«الآن يُطلب منا أن نطوي الصفحة دون أن يشفى أحد من أحد» ص87 العين القديمة
لقد أثار الأشعري استحالة تحقيق هذا الانتقال في شروط سياسية لم تنضج بعد لإنجاحه، مشيرا إلى أننا منذورون للإقامة في الانتقال المؤجل. هذا التأجيل سبق أن نبه إليه قبل تحققه، واقعا، في عموده بالصفحة715(2دجنبر 1997):» إلى متى يمكن تأجيل هذا التحول الحتمي الذي سيؤدي لا محالة إلى تأسيس شرعية سياسية جديدة قائمة على إرادة الناخبين !وهل التأجيل ممارسة سياسية مضمونة العواقب؟ هل يملك المغرب كل شروط السيطرة والتحكم في مغامرة التأجيل؟»
بمعنى إلى متى تأجيل كل شيء والتوقف في المنتصف( ملفات الإنصاف والمصالحة، ورش الأمازيغية، الإصلاح الديني، قضايا المرأة، الانتقال الديمقراطي، ورش إصلاح التعليم، قضايا الإبداع وحرية الصحافة…..).
تأجيل ما زال الأشعري يحمل أسئلته في كل ما تلى «عين العقل» من كتابات، خاصة الروائية. يقول في «العين القديمة»:
«إذا كانت المرحلة قد انتهت، فلماذا لم ينته معها كل شيء؟ لماذا تتمدد وتتداخل وتتبادل فيها الأدوار دون أن ندرك أن هذا الأمر سيقودنا حتما إلى الرجوع من حيث أتينا» ص:115.
وكما أسئلة السياسة ظلت مفتوحة، فإن أسئلة الإبداع أيضا حمل الأشعري ثقلها وهواجسها الى الرواية، فحين أثار وضعية المبدعين في المغرب في 1994 بعد اعتقال الفنان المسرحي الراحل أحمد جواد أمام المسرح البلدي بالجديدة وهو يحتج على قرار هدمه( ص433 من عين العقل)، فإن المحنة لم تنته إلا وهو يغادرنا السنة الماضية أي بعد 23 سنة من إضرابه الأول، وقد أضرم النار هذه المرة في جسده أمام وزارة الثقافة في اليوم العالمي للمسرح، ثم قضية اختطاف الفنانة ثريا جبران سنة 1991 شغلت الأشعري ضمن انشغال أكبر يتعلق بحرية الإبداع والمبدع حيث كتب: «لماذا تختطف امرأة وتعذب لمجرد أنها كانت على أهبة الكلام في ساعة واحدة لا أقل ولا أكثر» ص139 من عين العقل.
انشغال بالإبداع ما زال يؤرقه الى الآن حين نقرأ في «العين القديمة» في ص 184 هموم من اختاروا الفن وسيلة حياة :» في هذه الأحياء توجد دور شباب متسخة، لكنها تغلي بالمواهب المدهشة. مغنون في كلمات أغانيهم نبرة اللغة اليومية المباشرة التي لا تخاف أن تكون مبتذلة وساقطة ما دامت تقول شيئا عن الآن وهو الأشياء والمشاعر الواقفة في منتصف الطريق».
ختاما، أقول مع مكرمنا الأشعري: «نحن لسنا ورقا تائها في أرشيف منسي..نحن حقيقة ملموسة من لحم ودم ومشاعر وذاكرة… بناء الحكايات شيء جميل، لكن لا ينبغي أن يقتل الحكاية الأصل».(3)
تلك الحكاية /الجراب التي مازال في جعبة محمد الأشعري الكثير الكثير منها.
هوامش:
«طائر الطبع يرى الحبّة وعين العقل ترى الشرَك» ابن قيم الجوزية
العين القديمة ص114.
ص179 من العين القديمة.
*(قدمت هذه الورقة في اللقاء الاحتفائي بمنجز الأشعري ضمن خيمة الإبداع بمنتدى أصيلة 45 الذي اختتم أمس الخميس 31 أكتوبر 2024)