«من قتل عمر؟!»

عن رواية «عمر الغريب» لسلمى مختار أمانة الله

 

تحدّث النقد الروائي بإسهاب عن «السارد»، غير أنّه لم يول اهتماما كبيرا ب « الساردة «، هذه الذات الكامنة في كلّ كاتبة بكل حمولة الأنثى فيها، والتي أبانت عليها «هيلين سيكسو» حين التركيز على اللاوعي، وعلى لغة اللاشعور، في الكتابة النسوية باعتبارها من أخص خصوصيات الكتابة الناعمة.
كثيرا ما يشبّه منظّرو الأدب الكتابة بالحلم، وزادوا التشبيه ترقيقا حين أضافوا صفة « اليقظة «، فقالوا «حلم اليقظة»، فأضحت الكتابة الإبداعية أشبه بالنوم، فهل ينام كلّ ذي قلم في يقظته بالمذكّر أم بالمؤنّث؟
في قصيدة لـ» فريدريك ميسترل» بعنوان» أزهار الصلصال»، وقد تعب طفل القصيدة، بضمير المتكلّم، في قطف الأزهار الجميلة، والوقوع مرارا في المستنقع، ليعود أخيرا الى البيت وينام في مرقده (mon Berceau)، غير أن الشاعر، الحالم بالكلمات، أنّثَ الكلمة فحوّلها الى (ma berce). يعلّق باشلار عن ذلك بقوله « في الكلمة بالمؤنّث نعرف النوم الحقيقي لأنّنا ننام بالمؤنث». ألم تشبّه لغتنا المأثورة النوم بالموت، ومن ثمة فالموت نوم لا يخلو هو أيضا من أحلام يقظته.
بذا، في تقديري، جاءت رواية «عمر الغريب» رواية اللاشعور النائم يقظا في الذات المبدِعة، كما في الشخصية المبدَعة، وقد امتدّ هذا النوم بأحلام يقظته مائتين وثلاثة وسبعين صفحة، يعيد فيها « عمر» الميت شريط حياته الذاتية الداخلية كما عاشها لا شعوريا في انتقاله من «طفل الحب» (رأفة بالمولود الذي لا ذنب له) الى «طفل الحرمان». فهذا اللاشعور الكامن في الذاكرة حين يتلاقح والتخييل يرسم تفاصيل الهوية المفقودة، أو تدقيقا الهوية المبحوث عنها. يرسم مسارا سيريا للبطل مما سبق ذكره الى «طفل القسوة «، حيث ان «عمر» ظل طفلا في علاقته بالعالم، حتى وهو يعي صخب العالم وخبثه وتعفّنه، حتى وهو يناقش في صفحات حجاجية كثيرة، تخلّلت حكيه لسيرته، مواضيع البؤس الاجتماعي، وواقع التعليم والصحّة، وآفة الهجرة السرّية، وجشع عالم المال والأعمال، وفساد الإدارة…بإدانة مُرّة لقسوة الحضارة المزيّفة. فليس غريبا، في هذا السياق، أن يختار «عمر» مهنة الطبيب المعالج، وأن يتخصّص تدقيقا في ما له به علاقة طفولية خاصّة، أقصد طبيبا لتوليد النساء، مهنة من طينة المحنة، يعالج ما تكوّر في الأرحام من مضغ لا علاقة لها بفاعليها، يعالجها محمّلا بالندوب التي أورثتها إياه تلك التي رمته بعيدا عنها خوفا من عار القبيلة، فلم يكن أمام «عمر» الا محاولته الفرار من الهوية المسجونة الى هوية أخرى مفقودة، تقول الساردة، على لسان «عمر» وقد ارتكب ثأره الأول من « فقيه المدينة» : « ركضتُ وركضتُ و ركضتُ … كنت هاربا…لأجدني بعيدا عن كلّ الأماكن التي عرفتها حتى الآن …» ص37. كل خطوة ركض خارج مجال «الثأر» كانت بحجم خطوات الخوف القادمة خروجا قهريا من رحم اللعنة بغية قطع حبل السرّة بالأسنان المكشّرة غضبا، يقول «عمر»:» خرجت كلماتي متأنيّة من بين أسنان تصطكّ غيظا» (ص261). انها الرغبة الملحاحة للخروج من الرحم المقهورة الى السباحة الماكرة في رحم الواقع، فهل تخلّص فعلا «عمر» من ذكرى الطفولة البئيسة؟
ظلّت صورتان أصليتان طفليتان تتصارعان على طول الرواية، وقد اتخذتا تجليا يختلف حسب المقام، وبتلوينات ظلّت وفية للنموذج الأصلي النابع من رحم التربة والجذور: صورة تلك التي كان يناديها بأمّه، والتي كان لا يراها الا ليلا حين تزيحه بعنف من موضع نومها الذي لا يحلو له النوم الا فيه، توقظه بصفعة قوية…(ص19)، أو ليس لأنّه كان ككل عباد الله إنّما يرغب أن ينام بالمؤنّث؟، وأما الصورة الثانية النقيضة، فتلك التي كانت لـ» سيدة المُشمش»، ذات السيارة السوداء، صاحبة الشطائر المحشوّة بمربّى المشمش، تلك التي يقول عنها:» سيدة جميلة… امرأة مختلفة… امرأة غريبة… امرأة دخيلة… لا تشبههم … كنت أترقّب مجيئها بفرح…» (ص 19)(يجري هذا التقابل الضدّي في الصفحة نفسها تركيزا على المقارنة المتعبة)، وليس غريبا أيضا، والحالة هاته، أن تحمل الصورة المشوشة بفعل هذا التضاد إسم « أحلام»، وأن يكون من سوء حظ هذه الأحلام، أو سخرية قدرها، أن تتحمّل الرغبة العبثية في الجمع بين الصورتين المتناقضتين، تقول الساردة :» هذه المرأة القبيحة القاسية التي تتحدّث أمامه بصوت أرعن هي نفسها أحلام! لا يكاد يصدّق» (ص 272). إنّه نفس العبث الذي عاشه «عمر»، اذ لم تكن لحظات صفائه، أو وجهه الإيجابي المزيف، قناعه الآخر، الا بقايا « سيدة المشمش»، وما خلّفته من حلاوة روحها على شقاوة الحرمان (ص19)، أو تدقيقا استراحة المحارب كي تستأنف سيدة البؤس غزوات الشقاء في انتظار « سيدة المشمش» التي تأتي ولا تأتي.
– « مَن والدُه؟
قلتَ لها وقد ركبكَ ذاك الوحش الذي لم يغادرك أبدا «
بهذه الكلمات الشحيحة يختزل عمر صورته الحقيقية وهي تعيش قسوة المفارقة بين الصورتين، تلك التي كانت حلبة ممارسة السادية المرضية (ص256) وهو يعيش بقسوة انفصام الهوية، سليلة الرجل الشرقي، يقول: « ذاك المنشطر من حرقة السؤال المكلوم بموت كلّ الأجوبة» (ص261)، ولايزال «عمر» يركض كما سابق عهده بالركض، يقول: « ركضتَ نحوها من جديد…» (ص266).
توالت الوقائع والأحداث، وظلّت « سيدة المشمش « في العقل الباطن لـ» عمر الغريب»، ألم يكن «عمر الغريب» في كلّ غزواته الحياتية إنّما يبحث عبثا عنها، عن تلك التي ظهرت في بداية الرواية، واختفت الى الأبد.
كثيرون وكثيرات هم من أساء إليهم، فمن قتل « عمر الغريب»؟، ألا يكون مثلا، ومن باب شرعنة آفاق انتظار القارئ، أن يكون القاتل هو «الفقيه « وقد عاد ثانية لينتقم من ذاك الصبي المغتصَب؟
نهايتان لرواية واحدة، خاتمتان مفتوحتان على مصراعي الاحتمال: إذن فـ « سيدة المشمش» هي من قتلته، قتلته صورتها وهي» تمدّ يدها في قلوبنا الجائعة، وهي تبتسم بحنوّ في وجه تدافعنا» (ص19)، تلك المرأة التي ظهرت كفصّ ملح وذاب، صورتها المثالية التي ظلت عالقة في ذاكرة الطفل الذي كانه وظَلّه عمر، صورة كمال ناضج لسيدة مبحوث عنها في زحمة النساء، لآخر امرأة من صنفها، لجنس كان في طريقه للانقراض.
مات «عمر» مقتولا بعد أن أضناه البحث عنها في جدار كهف الواقع، والتي لم تفلح تقلبات الواقع وخيباته في بث انعكاسها… كانت « سيدة المشمش» صورة مثالية لفلتة من فلتات التاريخ الشخصي، تلك التي ظل بعدها «عمر» يموت، أو يُقتل، بالتقسيط لأنه فقط كان ضحية « شاعرية الذاكرة « على اعتبار أن الذاكرة ليست فقط خزّان وقائع بل أجواء الوقائع وآثارها.
لم يكن مردّ علّة الموت، وغياب الشفاء، بعد فوات الأوان، إلا غياب استيعاب «عمر» لما قالته أحلام(ه) في آخر صفحة من الرواية، وكأنّها تخاطبه هو، أو تدقيقا تخاطب لا شعوره: « أردفت جازمة: لا يحتاج أن يتعرّف على أب مثلك «(ص 273). إنها الجملة المفتاح التي كانت من شأنها بكل حمولتها أن تجنبنا – نحن الماضويين- كلّ المآسي الكبرى للتخلّص الواعي من كلّ ماض مبتذل، كما التخلّص من طفليتنا في علاقتنا بالعالم.
لم تقتل عمر غير الصورة المثالية التي نحلم بها لواقع مختلّ أصلا.


الكاتب : عبد الإلاه رابحي

  

بتاريخ : 24/12/2022