من مآزق الوعي الجمعي الإسباني المعاصر : أنوال 1921: كارثة إسبانيا في الريف

لا شك أن الصدى الكبير الذي خلفه الانتصار التاريخي الذي حققته الثورة الريفية بزعامة محمد بن عبد الكريم الخطابي على الجيش الإسباني في معركة أنوال سنة 1921، قد أضحى مصدرا للاستلهام بالنسبة لقطاعات عريضة من النخب الإسبانية المعاصرة. ولا شك – كذلك – أن هذا الانتصار قد خلف رجة كبرى في الوعي الجمعي الإسباني الراهن، ليس فقط بسبب ما خلفته الهزيمة من آثار مدمرة بشريا ونفسيا، ولكن – أساسا – بالنظر لكون الهزيمة الإسبانية في أنوال شكلت ترسيخا لمراحل تراجع الإمبراطورية الاستعمارية الإسبانية وانكماش نفوذها منذ سنة 1898، مع فقدان آخر المستعمرات الإسبانية بأمريكا اللاتينية والفلبين.
لقد شكلت “ كارثة “ أنوال شرخا كبيرا في جسد الدولة الإسبانية، جعل صناع القرار يفكرون في احتمالات الانسحاب النهائي من المغرب، إلى جانب أن الهزيمة جعلت المسؤولين الإسبان يعيدون ترتيب موقع إسبانيا داخل خريطة أوربا في سياق تداعيات نتائج الحرب العالمية الأولى المدمرة.
لقد اكتشفت إسبانيا وجهها الحقيقي مع هزيمتها في أنوال، باعتبارها “قزما “ كان يفتقد لمقومات مجاراة مشاريع الهيمنة والتسابق الكولونيالي الأوربي للمرحلة، خاصة عقب انفراد فرنسا وإنجلترا بهيمنتهما شبه المطلقة على عوالم ما وراء البحار، بعد أن نجحتا في تجريد ألمانيا من مستعمراتها بموجب معاهدة فرساي الشهيرة لسنة 1919. ورغم أن إسبانيا كانت تجر من ورائها تاريخا استعماريا حافلا “ بالبطولات “ عبر أجزاء مختلفة من الكرة الأرضية، فإن ذلك لم يكن كافيا لتدعيم الموقف الإسباني على الأرض، بالنظر لاستفحال الأزمات والتناقضات الإسبانية الداخلية وجنوح قوى اليمين، بتحالف مع المؤسسة الملكية، إلى إقامة نظام حكم ديكتاتوري، أفضى إلى استيلاء الجنرال بريمو دي ريفيرا على السلطة سنة 1923، في إجراء اعتبر كإحدى النتائج المباشرة لهزيمة إسبانيا في واقعة أنوال.
لذلك، فقد أضحى الموضوع مصدر شغف متواصل لدى إسبان الأمس واليوم، من أجل فهم أسراره وتشريح خباياه. وأثمر ذلك، صدور أعمال متواترة من الدراسات والتنقيبات الممتدة في الزمن، بشكل تحولت معه قضايا حروب الريف التحريرية إلى شأن إسباني عام، انخرط فيه الجميع، وتفاعل معه الجميع، كل من موقعه، استجابة لمنطق “ الدهشة “ العارمة التي ظل الإسبان يحملونها تجاه حقيقة ما وقع. فكيف أمكن لفئات محدودة من القرويين البسطاء قهر آلة غزو استعماري كان لها صيتها العالمي ؟ وكيف أمكن لمقاتلين “ أفارقة متخلفين “ – حسب التعبير الأثير للدوائر الاستعمارية للمرحلة – من التفوق على “ الحضارة” الأوربية الحديثة ؟ وقبل كل ذلك، كيف أمكن لجماعات كانت تعيش على “هامش” التطور الحضاري للمرحلة، إسقاط القناع عن حقيقة وجه إسبانيا، باعتبارها دولة متواضعة، وغير قادرة على مجاراة منطق التطور الذي كانت تعرفه دول أوربا الغربية خلال المرحلة المعنية ؟
ونظرا لأن مثل هذه الأسئلة قد استفزت الرأي العام الإسباني، فقد انخرط الجميع في « جلبة « الكتابة عنها، في محاولات مسترسلة لفهم حقيقة ما جرى. ولم يقف الأمر عند المؤرخين الذين جعلوا الأمر يتحول إلى موضوع متجدد بامتياز، ولكن شمل – كذلك – قطاعات واسعة من الإعلاميين ومن عموم المتتبعين الذي انشغلوا بالبحث في أسرار « كارثة أنوال « ودورها في تفعيل مجمل التناقضات السياسية والاجتماعية لإسبانيا خلال عقود عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. في سياق هذا التوجه العام، يندرج صدور كتاب «أنوال 1921 : كارثة إسبانيا في الريف « لمؤلفه مانويل ليكينيشي، سنة 1996، في ما مجموعه 387 من الصفحات ذات الحجم الكبير، إضافة إلى سلسلة من الملاحق التوثيقية ذات الصلة بالموضوع. ويمكن القول إن هذا العمل يستجيب لنهم الرأي العام الإسباني في إعادة فتح ملف أنوال، في علاقته بمجمل التطورات الداخلية التي عرفتها إسبانيا خلال المرحلة المعنية. وللاستجابة لمضامين هذا الأفق، اهتم المؤلف بالبحث في واقع منطقة الريف وتطورات المشروع الكولونيالي فوق أرض « إفريقيا «، قبل الاقتراب من « مجاهل « أرض الريف والتنقل فوق الميدان لتجميع المعطيات التوثيقية والإثنوغرافية الضرورية للدراسة. وقد استند في ذلك، إلى تحركه الميداني أولا، ثم إلى سلسلة من الأعمال العلمية ذات الصلة، وعلى رأسها تلك التي أنجزها بعض الباحثين المغاربة المعاصرين، من أمثال الراحل جرمان عياش. ويبدو أن العمل قد استجاب لنهم إسباني متجدد لفهم حقيقة ما جرى في إطار « نكبة أنوال «، سواء في شقها المرتبط بالخصوصيات التاريخية والاجتماعية والثقافية المغربية، أم في شقها المرتبط بخصوصيات التناقضات الإسبانية الداخلية التي عكست الكثير من مظاهر الانكسار أمام هزائم استعمارية متتالية، هنا وهناك، من كوبا إلى الريف، مرورا بالفلبين. لذلك، فقد انزاح الكتاب نحو التشكيك في اليقينيات الإسبانية المتوارثة، من أجل وضع أسس قراءة بديلة لخصوصيات تطور الأوضاع فوق « أرض الريف «، ولجوهر انكسار المغامرة الكولونيالية الإسبانية بعموم بلاد المغرب. وانسجاما مع هذه الرؤية العامة، فقد انساب العمل في شكل متن حدثي لم يهتم كثيرا بضرورات الضبط العلمي ولا بالتوثيق المنهجي المرتبط بالإحالات وبالمصادر وبالهوامش، في مقابل التركيز على إغناء العمل بالبعد المرتبط بالحكي الانطباعي المباشر.
ورغم أن الكتاب يظل مجرد تجميع لنتائج تحقيق صحفي، فالمؤكد أن عمقه التاريخي ومنحاه التنقيبي وأدواته الميدانية في التقصي وفي البحث، تشكل عناصر قوية داخل العمل. ونظرا لتشابك قضايا الموضوع في شقيه الإسباني والمغربي، فقد أضحى يستجيب للمستويين المتكاملين في التدوين، رصد آثار معركة أنوال على الوعي الجمعي الإسباني من جهة أولى، ثم إبراز دورها في تأزيم أوضاع الدولة الإسبانية الكولونيالية المتوارية من جهة ثانية.
إنها قراءة من الداخل، توفر الكثير من العناصر الارتكازية الضرورية لإعادة تقييم أشكال تفاعل الرأي العام الإسباني مع الملفات المغربية الملتهبة، سواء من موقع الفاعلين المباشرين في الأحداث، أم من موقع المتتبعين من خارج دوائر المسؤولية المباشرة لدواليب الدولة.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 20/07/2021