من مقدمات الخطيبي (13) : مطالب النساء هو الاحترام والكرامة والمودة المشتركة والحوار

“من مقدمات الخطيبي” إضمامة من الاستهلالات، قدم بها الخطيبي بعض أعماله وأعمال غيره في الفكر والإبداع. وهي في إبداعه لا تتجاوز نصا مسرحيا واحدا، ووحيدا في كتابته المسرحية، وهو “النبي المقنع” الصادر عن دار “لارمتان” L’Harmattan في 1979.
قدم الخطيبي أعمال مؤلفين معروفين، وآخرين ليسوا بالقدر نفسه. كما قدم لنساء كاتبات مغربيات. وكانت له استهلالات في المجلتين (المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع، علامات الحاضر)، ووقع مقدمات أخر بالاشتراك.
ونصادف في مقدمات الخطيبي الأكثر ترددا: التمهيد Avant-propos، الاستهلال Préface، التقديم Présentation، الديباجة Prologue، الاستهلال البعدي Postface، الافتتاحية Préliminaire، أو بروتوكول… وهي تصنيفات-رغم تداخلها- صالحة لتأطير ما تثيره كل مقدمة من قضايا حول المؤلف، وتشكل النص، وإضاءات لولوج عالم الكتاب…
غير أننا نعثر على مقدمات، لا تشير إلى نفسها بهذه التسمية، بل تأخذ عنوانا مستقلا حل محلها، أو عنوانا مصحوبا بها.
ليست المقدمة ملزمة ولا ضرورية، في كل كتاب. إلا أنها تستمد قيمتها مثل باقي المتوازيات والمناصات والعتبات. وغالبا ما يعدم حضورها في الهوامش والإحالات، وكأنها خارج النص hors livre بتعبير جاك دريدا.
ورد في كتاب “التشتيت” La dissémination “تكون المقدمة لنص فلسفي غير مجدية ولا حتى ممكنة”. فهل كتب الخطيبي مقدمة فلسفية؟ هذا الحكم القاطع لجاك دريدا يعفينا من إثارة هذا السؤال أصلا؛ فكتابة الخطيبي المتعددة، لا تيسر تأطيره في خانة معينة، فالخطيبي ليس رجل المفاهيم، ولا نعثر له على كتاب فلسفي بالمواصفات الفلسفية، إذا استثنينا “كلمته” التي قدم بها الكتاب الفلسفي لعبد السلام بنعبد العالي: “الميتافيزيقا، العلم والإيديولوجيا”.
ويكاد المنجز الإبداعي لعبد الكبير الخطيبي، يخلو من مقدمات، باستثناء كتابه المسرحي الآنف الذكر. والذي استهله بديباجة Prologue.
لكن، من يقرأ منا كتابا بدءا من مقدمته؟ من يقرأ مثلا، مقدمة “لسان العرب” لابن منظور (1232-1311). الجواب السهل: قليلون نادرون هم من يقوم بذلك. يكشف الناقد عبد الفتاح كيليطو، في إحدى شهادات عن قراءته لمقدمة ابن منظور، وهو أمر قد لا يعني شيئا، للكثيرين من متصفحي هذا المعجم النفيس. ليذكر ما قاله: “جمعت هذا الكتاب في زمن أهله بغير لغته يفخرون…وسميته لسان العرب”.
حظيت مقدمة ابن خلدون بذيوع صيتها، أكثر من كتابه المقصود بها: “العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاكبر”. وحسابيا، حبر الفيلسوف نيتشه من المقدمات أكثر مما ألف من الكتب. وهذه لعمري معادلة غريبة! ومهمة مستحيلة كما أثبت ذلك “دريدا” وهو يفكك مقدمة “هيجل” في كتابه “فينومينولوجيا الروح”.
ولا تخفى الأهمية من تجميع مقدمات الخطيبي، سواء تلك الواردة في مؤلفاته أو مؤلفات غيره أو في المجلتين اللتين كانا يديرهما. وتوفير بعض منها، في هذه الإضمامة، عرضا وترجمة، تثمينا لهذه العتبات النصية وتبريزها.

 

 

لكن بسرعة كبيرة، ينبغي إضافة أن هذا الاحتراب الداخلي غير مسموح به: أنا لا أتسامح مع الغير إلا بالقدر الذي يحترم فيه أصل كينونتي وجُماعها. الالتباس بينك وبيني يتيح درجة معينة من اللاتسامح، يتضمن داخله شروط الحرب. إذا، ينبغي الانكفاء على فردانية صارمة، ومستقلة، كل هذا مع الالتفات إلى فكر المغايرة. يتحدد الحب عبر هذه الحركة المزدوجة، من تراجع وتَوَجه. يذكر بصورة رقصة، تنتظم وفق خطو الابتهاج. لكن منيتكلمثانية عن الحب؟
القانون يُتَقَاسَمُ، فمبدأه الصارم خاضع لقواعد. مثلا، قلنا، إن اللاتناظر غير المتكافئ يكرس هذا المبدأ حسب مجالين: الجنساني(الشق الأنثوي)، الاقتصادي والسياسي (الشق الذكوري). هذا الضبط وفق النظام الأبوي، والتمركز القضيبي، صار اليوم مشجوبا. حسنا. لكن يوتوبيا مساواة مطلقة وفردوسيةـ هي بالنسبة لنا مستبعدة. من المؤكد، يلزم المساواة الاقتصادية والقانونية والسياسية، لكن كيف نفكر في الجنساني خارج كل لاتماثل؟ كيف نعيده مساويا لنفسه؟ هذا الأمر يتبدى لي عبثيا. أقصد أن اللاتناظر عسير في حد ذاته، مطلوب منه أن يسوى عن طريق فكر يفكر في المستحيل تقاسمه.
والفكر هو لغة؛ هذه اللغة لا هي أبوية ولا أمومية، لا هي مذكر ولا مؤنث. تتكلم القانون وتكتبه، لحسابها الخاص. هكذا من الملائم تلقي الكلام النسوي-دون تشك- في إعادة بنائه الأصلي. حينئذ، يلتزم حوار دون نهاية ولا غاية، إلا ما كان من التحدث والتوضيح. حديث متقاسم، وتقاسمه هو قاعدة اللعبة. الحرية المشروطة هي دائما محمولة يهزها عنف شديد لعلاقات القوة، غير أنه خارج اللغة، تسقط العلاقة في وضع يتعذر تفسيره: لكن لنتحدث، لنتحدث إذا!
تنحت اللغة الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وما يتبقى. وهذا المتبقي لنسمه الجنساني. يقاوم اللغة ويصمد أمامها. لهذا أوكل الله إلى آدم القدرة على تعليم الأسماء كلها: لكن لنتحدث إذا!
لعلني أسرع قليلا، يرغمني على ذلك نشيد داخلي. أنا هنا لا أكتب استهلالا. لنواصل. ألمح هنا إلى بعض الوجوه النسائية، والتي منها الحورية، الحورية العذراء توافق، تتعقب، كما يقال، مخيلة الذكر. عذراء، يا له من حلم فعلا! أجازف هنا بتأويل في هذا الشأن الدقيق: ذاك الذي يشترط عذرية الآخر (عذريته هو، يعلم الله أنى ذهبت) يريد أن يتقاسم سرا مع المرأة.سرا عبر-أمومي، أبعد من الأولى، الأم الأولى. فهنا خط للتقاسم بين أمين (الأولى والزوجة)، توقيع دموي لمؤسسة جديدة. فما يستطيع الذكر تَمَثله، هو أن يكون هو المُوَقع المُؤَسس لرسالة خفية، مَخِيطَة بجسد الفتاة البالغة، هناك حيث يهتز الحنين إلى فردوس مفقود، وأصل مستحيل يُمْتِعُ. بماذا؟ حسنا، بلا أي شيء، بعذراء لم توجد في أي مكان. يريد الذكر أن يكون ابن القانون، ابنه العزيز، الذي يسعى إلى أن يحظى بقربه، كي يكتبه لحسابه الخاص. هنا حيث يغير الذكر مسار العذرية، نحو الصفحة البيضاء، نحو فكرة الكتاب حيث انبثقت التوحيدية. لن يتبقى غير الأولياء، والحوريات والأمهات الطاهرات، للإحاطة بالأنثوي، بين صفحات كتاب قديم: لكن اكتبوا، اكتبوا إذا.
يقال أيضا-هذه أسطورة قديمة- إن الحورية والمومس أختان توأمان، في هذا المتخيل حيث يصوغ -اجتماعيا- الجهاز الأبوي، نظامه لتبادل النساء. شراء هذه أو تلك، سيتم احتسابه داخل هذا الاقتصاد اللبيدي: حزام من ذهب متلألئ في الزفاف، بالتأكيد! وللأخرى نقود، تسلمها يد إلى أخرى.
عندما تصير الحورية أما، تواصل المومس تجارتها أكثر من ذي قبل. الذكر الذي يرغب في الإهانة ويعهر المومس، يتخلص عبرها، من عجزه. لكن من يتحدث ثانية عن حب من معدن؟ يبدو أن الحورية والمومس هما استيهام يشغل الذكر. لنقل ذلك. ليتحول اللاتناظر إلى لامساواة، فوفق نظام للعنف يحيي ويميت؛ ترتفع هذه المساواة إلى الأخلاق (وما الأخلاق إلا من صنع السادة)، ودائما وفق نظام المؤسسة الأبوية، لكن ما العمل إزاء الأسرة حينما ستلغى كل لامساواة (اقتصادية، سياسية) أليست هي نواة كل تراتبية في الأصل؟
غير أنكم تقولون إن ما طالبت به النساء دائما، هو أيضا الاحترام والكرامة والمودة المشتركة، الحوار في نهاية المطاف. هي أشياء جميلة. أجلأجل، فكل هذا ليس من الأدب في شيء. إنه موجود، وعليه أن يوجد. وإلا فلن تكون سوى الإهانة والحرب (أو سلم مسموم)، والارتياب والجحود.
الطريق طويل، لكن ها هو ذا نشيد يطلع، من هذه الشفاه الخرساء!
في 17-1-1984
Le Maroc raconté par ces femmes, Fatima Mernissi, SMER, Rabat, 1986, pp.7-8-9-10.

 


الكاتب : إعداد وترجمة: محمد معطسيم

  

بتاريخ : 16/04/2022