قطع ترسيم اللغة والثقافة الأمازيغية عددا من المراحل الأساسية منذ الخطاب الملكي لأجدير (17 أكتوبر 2001)، الذي أعاد جلالة الملك محمد السادس الاعتبار للمكون الثقافي الأمازيغي، قائلا: “ولأن الأمازيغية مُكوّن أساسي للثقافة الوطنية، وتراث ثقافي زاخر، شاهد على حضورها في كلّ معالم التاريخ والحضارة المغربية، فإننا نولي النهوض بها عناية خاصة في إنجاز مشروعنا المجتمعي الديمقراطي الحداثي، القائم على تأكيد الاعتبار للشخصية الوطنية ورموزها اللغوية والثقافية والحضارية”.
وأكد الخطاب الملكي أن “النهوض بالأمازيغية مسؤولية وطنية، لأنه لا يمكن لأي ثقافة وطنية التنكر لجذورها التاريخية. كما أنّ عليها، انطلاقا من تلك الجذور، أن تنفتح وترفض الانغلاق، من أجل تحقيق التطور الذي هو شرط بقاء وازدهار أيّ حضارة”.
بعد ذلك، توالت القرارات والمبادرات نحو الترسيم. ففي سنة 2003، تقرّر إدراج الأمازيغية في مناهج التعليم بحرف “التيفيناغ”، وذلك بعد صراع كبير بين “دعاة استعمال الخط العربي” و”أنصار الخط اللتيني”. وفي سنة 2006، تقرر دخولها في الإعلام الرسمي وإنشاء قناة الأمازيغية التلفزيونية سنة 2008 (بدأ البث سنة 2010)، وتبعها قرار جواز الاستِـعانة بمترجمين للأمازيغية بالمحاكم. كما سبق أن تم تأسيس أول مسلك للدراسات الأمازيغية بجامعة أغادير سنة 2007، ثم بعدها بجامعات فاس ووجدة والناظور والدار البيضاء.
كل هذه المبادرات مهدت الطريق لترسيم اللغة والهوية الأمازيغية في دستور 2011، حيث نصَّ الفصل الخامس من دستور 2011 على ما يلي: “تُعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء”.
ومع ذلك، سجل ترسيم “اللغة المدسترة” نقصا حادا في توفر الشروط الذاتية والموضوعية، التي تؤهِّـل الأمازيغية المُـمعيرة لدسترتها لغة رسمية بالفعل، إذ سجل العجز عن إنجاز أو القيام بأي شيء من المُـقتضيات الفعلية في الواقع، لعملية ترسيمها، المتمثلة في استعمال الأمازيغية في الأنشطة الرسمية (الخطابات؛ الاجتماعات؛ المراسلات؛ الوثائق)، والمؤسسات العمومية (التعليم؛ الإدارة؛ الإعلام؛ الاقتصاد..).
وفي الـ 12 من أكتوبر 2015، عين جلالة الملك لجنة أوكل إليها مهمة صياغة مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، والذي يهدف إلى حماية وتطوير اللغتين العربية والأمازيغية ومختلف أشكال التعبير الثقافي المغربي.
وفي 28 يونيو 2018، صدر منشور رئيس الحكومة القاضي بتدريس الأمازيغية بخمسة معاهد عليا، وهي: المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي والمعهد العالي لمهن السمعي البصري والسينما والمعهد العالي للإعلام والاتصال، التابعة لوصاية وزارة الثقافة، بالإضافة للمعهد العالي للقضاء التابع لوصاية وزارة العدل، إضافة للمدرسة الوطنية العليا للإدارة التابعة لوصاية رئيس الحكومة. كما صدر منشور لرئيس الحكومة بتاريخ 30 أكتوبر 2018، ويقضي بإلزامية استعمال اللغة الأمازيغية والعربية بالإدارات العمومية. كما يمكن اعتبار تعديل مرسوم جائزة المغرب للكتاب بتوسيع أصنافها لتشمل ولأول مرة جائزة المغرب التشجيعية للإبداع الأدبي الأمازيغي وجائزة المغرب التشجيعية في الدراسات في مجال الثقافة الأمازيغية، من أهم الإنجازات في هذا المجال.
بعد هذه الإجراءات صدر في شتنبر 2019، القانون التنظيمي رقم 26.16 المتعلق بتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وكيفيات إدماجها في مجال التعليم وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، في الجريدة الرسمية.
وفي بداية شتنبر 2020، تم تأسيس لجنة وزارية يرأسها رئيس الحكومة سعد الدين العثماني لتتبع مراحل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية، بما في ذلك دراسة مخططات العمل والبرامج القطاعية المرتبطة بها.
وقد شكَّل صدور كل من القانون التنظيمي رقم 26.16 المتعلق بتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وكيفيات إدماجها في مجال التعليم وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، وكذا القانون التنظيمي رقم 04.16 المتعلق بالمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، إيذانًا بانطلاق مرحلة جديدة في مسار الأمازيغية، لغة وثقافة وآدابًا.
وقد تضمن القانونان إجراءات مهمة ستسهم في عملية الإدماج القوي والفعلي للأمازيغية في مختلف مناحي الحياة العامة وفي المجالات الحيوية، كالتعليم والإعلام والقضاء وغيرها.
حاليا، تم إحداث صندوق تمويل ورش تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية. كما تم اتخاذ حُزمة من الإجراءات، من بينها الإطلاق الرسمي للمشاريع المتعلقة بتعزيز استعمال اللغة الأمازيغية (تريفيت وتشلحيت وتمزيغت) في الإدارات العمومية وإدماجها بمختلف مجالات الحياة العامة، حيث تم توفير خدمة الاستقبال باللغة الأمازيغية في مجموعة من الإدارات العمومية، عبر تخصيص 460 موظفا مكلفين باستقبال وتوجيه المرتفقين الناطقين باللغة الأمازيغية لتسهيل ولوجهم للخدمات العمومية، وإدراج اللغة الأمازيغية في اللوحات وعلامات التشوير بمقرات الإدارات والمؤسسات العمومية، وتوفير خدمة الاستقبال الهاتفي باللغة الأمازيغية في تسعة مراكز للاتصال تابعة لبعض القطاعات الوزارية والمؤسسات العمومية، التي تشهد إقبالا كبيرا من طرف المرتفقين من خلال توفير 63 مكلفا بالتواصل الهاتفي باللغة الأمازيغية.
إلى ذلك، التزمت الحكومة، لأول مرة، بتنزيل هذا الورش الملكي، وخصَّصت غِلافا ماليا يناهِز 200 مليون درهم برسم سنة 2022 وبرمَجَتْ 300 مليون درهم برسم قانون المالية لسنة 2023، على أَن يَتِم رَفْعُهُ تدريجيا خلال السنوات المقبلة ليبلغ 1 مليار درهم في أفق سنة 2025 في سابقة من نوعها.
وفي الـ3 من ماي 2023، أقر جلالة الملك محمد السادس رأس السنة الأمازيغية، عطلة وطنية رسمية مؤدى عنها، على غرار فاتح محرم من السنة الهجرية ورأس السنة الميلادية. كما أصدر توجيهاته من أجل اتخاذ الإجراءات اللازمة لتفعيل هذا القرار الملكي السامي. وبالفعل احتفل المغاربة في الـ 14 من يناير 2024، ولأول مرة، في مختلف جهات وأقاليم ومدن وقرى بلادنا، برأس السنة الأمازيغية، رسميا، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء.
يذكر أن الحركة الأمازيغية تعتبر ميثاق أكادير حول اللغة والثقافة الأمازيغيتين، الذي وقعه سنة 1991 عدد من الجمعيات، هو الانطلاقة الفعلية لرسم معالم تحرك مدني واع بالنهوض بالأمازيغية، لتتبعه بعد ذلك إشارات سياسية من طرف الدولة، وبالخصوص من المؤسسة الملكية؛ حيث دعا الراحل، الملك الحسن الثاني، في خطاب 20 غشت 1994، إلى “ضرورة العناية بالأمازيغية وتدريسها بالتعليم الابتدائي على الأقل”. كما كانت مناسبة المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان المنعقد في فيينا، صيف 1993، حيث وقَّعت جمعيات أمازيغية مذكرة حول الحقوق الثقافية الأمازيغية ووجهتها إلى المؤتمر العالمي، إضافة إلى توجيه مذكرة مشابهة للأحزاب السياسية والحكومة والبرلمان في نفس التوقيت، وتأسس إثرها المجلس الوطني للتنسيق بين الجمعيات الأمازيغية بالمغرب، في فبراير 1994. كما شكَّل اشتغال المغرب على إعداد الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي صدر سنة 1999 فرصة سانحة للحركة الأمازيغية لتجديد مطلبها في تعزيز وضع الأمازيغية في منظومة التربية والتكوين؛ وهو ما حدث حيث أُدرِجت باعتبارها واقعًا وطنيًّا ضمن أوراق الملف اللغوي في الدعامة التاسعة (تحسين تدريس اللغة العربية واستعمالها وإتقان اللغات الأجنبية والتفتح على الأمازيغية) وخاصة البنود 115 و116 و135، وقد تلاه الكتاب الأبيض حول المناهج التعليمية الذي قرر إحداث حصة لتعلم اللغة الأمازيغية في التعليمين الأولي والابتدائي.
من «ميثاق أكادير» إلى «رأس السنة الأمازيغية عيدا وطنيا»
بتاريخ : 14/01/2025