من نصوص الراحل إدريس الخوري

يَوْمٌ يُشْبِه بَعْضَه

 

كَعَادَتِها كُلَّ صباح، تستيْقظ الشّيْخوخة المَريضة بالوقت، وتدْخل في دهاليزه. هُنا يصبح قابَ قَوْسيْن أو أدنى من المَوْت. فليكنْ. سيختفي هذا الجسدُ المنهار عن الأنظار وترْتاح المدينة. ربّما في منتصف الليل، ربما في الصباح الباكر، في الزّوال أو في المساء، في المقهى أو في نادي الكرة الحديدية. أيْنَكَ يا عزيز أزْغاي لتشاركنا طاولتنا الغذائية؟ لقد كَبُر أطفالك وأداروا ظهورَهم للنادي. لقد وصلتْ هذه الشيْخوخة المتمرّدة إلى نهاية الطريق ولم يبْق لها إلاّ الحفرة!
كانتْ ليلة البارحة جدّ مضطربة. ثمّة نوْم متقطّع، فاستيقاظ فنوم فاستيقاظ، فالإحساس بالجسد يُريد أنْ يُفرغ ما في بطْنه ثمّ العوْدة إلى الفراشِ الدافئ للاسْترخاءِ منْ جديد. هلْ ثمّة أفضل من أنْ يتمطّط الْجَسَد ويتثاءب مثل حِصَان في العَرَاء أُخْرِجَ من الإصْطبل ليستريحَ منْ جرّ العَرَبَة؟ إنّ هذا الجسد المُتعب الآنَ كان يَتَبَوْرَدُ بالأمس!
آحْ، آيْ، الله. كانت الشيخوخة تبحثُ عنْ نفسها في هذا الصباح، علّ وَعَسَى أنْ تجد لها معنى. هي الآن في سِبَاقٍ أخيرٍ مع الزّمن. هذا مَا تبقّى لها. وللبحْثِ عنْ رَاحَةٍ نَفْسيّة وجَسَدية أهدأ، مالتْ بجسدها إلى اليسار حيث الحائط واتّكأت عليه. لقد استمتعتْ ليلة البارحة بموسيقى الموشّحات الأندلسيّة.
ها هي الشيْخوخة مستيقظة وجدّ متنبّهة، فماذا ستفعل الآن؟ بعْدَ تناوُل وَجْبة الفطور سوْف ترْتدي ثيابَها العادية وتستعدّ للخُرُوج إلى المقهى. فليْس أبْقى للشّيوخ في آخر أيّامهم غيْر المقاهي والتّأمّل في المارّة وفي الفَرَاغ، الفَرَاغ… يجب شَمّ هواء هذا الصّباح النّاهض منْ نوْمه، يجب رؤْية البشر الذّاهب إلى حتْفِهِ الأَبَدِيّ دون أنْ يشعر. قَدَرُهُ التّاريخي فوْق أكتافه. أنَا نفسي قَدَرٌ آخر. فمنذ ولدتُ وأنا جدّ مليءٌ بالأحزان والآلام!
نفسُ النادل، ونفسُ الفنجان، ونفسُ الوُجُوه المتجهّمة الباحثة عن الدّرهم بالرّيق الناشف.
تْسيري؟ لا. باعَة مُتجوّلون مُتناسلون مثْل الفئْرَان. كيْف ستشرب هذه الشيْخوخة قهوتَها الصّباحية دون إزْعاج؟ شيئا فشيئا تضَعُ الشيخوخة نفسها في دائرة عَدَمِ الاهتمام بما حوْلها وتسبح في مَلَكُوتٍ آخر. ستُتَلْفِنُ إلى أحدِ الأصدقاء أنْ يأتيَ وينتشلَها منْ وحدتها النفسيّة. ليكُنْ شاعر الجلبانة أو قَصّاص الفُول، ليكنْ مصطفى النحال هو الذي يعرف ما بي.

**************************

آخر نص نشره 

كورونا مُونامورْ

نعم، كورونا في الصباح، كورونا في الزوال كورونا بعده، كورونا في المساء، كورونا في بداية الليل نفسه كورونا في نهايته، كورونا في إطلالة الفجر.. كورونا في البدايات الأولى للصباح، كورونا في الصباح نفسه، كورونا كورونا كورونا، ألا يمكن أن تتركنا أيها الفيروس القاتل؟ ماذا فعلنا لك حتى تتركنا أشلاء مبعثرة وعرضة للخوف والوساوس؟ ماذا فعلنا؟ نحن مجرد شعب بسيط لا حول لنا و لا قوة إزاء قوتك الخفية المتسللة إلى مسامنا الجلدية وأجسادنا المترهلة و المريضة بالسكر والملح والقلب والعينين الكليلتين، أما ظهورنا المنحنية دوما فهي مثقلة بأعباء الوقت الصعب والأيام المتشابهة و المتراكمة فوق بعضها… يا كورونا لقد ألفناك منذ أن “وطأت“ قدماك أرضنا الرطبة حيث أصبحت جزءا لا يتجزأ منا و ها أنت الآن تقيم بيننا كضيف غير ثقيل، فهل تقبل ضيافتنا؟ لقد تعودنا عليك منذ مجيئك دون استئذان، حيث تسللت إلى بيوتنا و أكواخنا وشيئا فشيئا بدأت تنهش أجسادنا إلى أن خارت قوانا نهائيا، إلى أن فارقنا الحياة، أيها الفيروس القاتل، هل أنت بخير؟ نعم، أنت في البيوت في السيارات و الحافلات، في الساحات والطرقات، في القطارات في المساجد في المستشفيات في المطاعم في الابناك في الدروب والأزقة في الحانات في المتاجر الكبرى و الصغرى، أما تعبت من قتلنا كل يوم؟ نحن لا نعرف متى تجيء و تتسلل إلى أجسادنا المريضة بالوقت الميت، هل في الصباح أم في المساء؟ في الليل أم في النهار؟ اليوم ام غدا؟ لا نعرف متى بالضبط؟ و لكننا قد ألفناك حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ منا.
يا كورونا، كم ستبقى بين ظهرانينا؟ هذا الشهر أم الشهر القادم؟ هل ألفتنا إلى هذه الدرجة بحيث ” قررت” أن ” تسكن” معنا إلى ما لا نهاية؟ مرحبا بك في بلادك فها هي تفتح ذراعيها لاحتضانك.
لقد قيل لنا من قبل و يقال لنا كل يوم، بأن علينا أن نغسل أيادينا الوسخة بين لحظة و أخرى و ها نحن نفعل ما يطلب منا، فهل أنت حقا تخاف من النظافة؟ هل هي عدوك اللدودة؟ قيل لنا و يقال لنا كل يوم أن نغسل أيادينا بالماء و الصابون، وإن لم يتوفر لنا فبالكحول، فاقترب منا  لكي ترى ما سيواجهك من رد فعل مضاد، لقد جهزنا أنفسنا كي نستقبلك أحسن استقبال، نحن الآن في كامل قوتنا الجسدية و مستعدون، فأبحث عن كورونا آخر ليكون بديلا عنك، أما أنت فقد أصبحت نسيا منسيا بسبب” أقدميتك“  بيننا.
يا كورونا أيها الضيف الثقيل أيها الفيروس الخبيث أما تعبت من نهش أجسادنا المريضة أصلا بالوقت الصعب و الأيام المتشابهة؟ كيف تغدو إن غدوت عليلا؟ أيها الداء الذي لا يرى بالعين المجردة، أيها السرطان الثاني السريع الانتشار هل انت صنوه أم بديله؟ نحن مجرد حقل تجارب لكما معا، فازرعا معا سمومكما السرية في أجسادنا المنخورة بأمراض أخرى وانتظرا نهايتنا المأساوية.
فعلا…لقد سئمنا الحياة بوجودكما معا داخل أجسادنا، وها أنت قد جئت عندي دون أن أدعوك فكيف ستنهش جسدي؟ من أين ستبدأ؟ من رأسي أم من أخمص قدمي؟ من وجهي أم من صدري؟ أرجو ان تكون رحيما بي فأنا مستعد لاستقبالك، بغض النظر عن الهلع الذي أصابنا بمجرد أن سمعنا بظهورك بيننا.

******************************

التمثال والخبز

انتصب أمامه بوجهه البولندي لا يطبق حراكا، كان كمن حكم عليه بالإعدام ينتظر إشارة إطلاق النار ليجر في الأخير كجثة نتنة ظلت مطروحة ولم يعرف بها بدء. ودون أن يبدي شيئا، كما لو أن الكلام ضل طريقه إلى الحلق، أرصى يديه الطويلتين المعروفتين حول فصديه الأعجفين ووقف رافعا رأسه إلى فوق مثل جندي يطيع النظام.
– ماذا تريد؟
قال صاحب الحانة
… …-
لا شيء يسمع، تمتمات طفيفة تعلو شفتيه الشاحبتين ثم تموت فجأة، أعاد مرة أخرى:
-ماذا تريد؟
… … –
-هل أنت مجنون؟
… …-

والتفت صاحب الحانة إلى الوراء : كانت مجموعة من الكؤوس الفارغة النظيفة تنتظر أن تملأ بالحليب كي يصبح رأبا، سوف يباع الكأس الواحد مساء غد بثلاثين فرنكا للذين أنهكهم العطش من جراء الحر، ومضى يجففها بفوطة بيضاء مستطيلة حتى أضحت تلمع، ثم عكس الالتفاتة من الداخل:
-ماذا تريد؟ قل، ألا تسمع؟
… …-
وتابع عليه صب الحليب الأبيض في كل كأس، كان لا يفتأ ينظر إليه من الداخل خشية أن يفعل شيئا، رمقه من جديد.
– من أين أتيت؟

… …-
لقد أوشك على الانفجار. إن ما في نفسه يكره التعدي، يكره الجوهر الذي أتى به، إنه يريد جوابا لكلامه المعطي إقناعا حقيقيا يشخص سر وقوف هذا الشخص الأشهب أمامه: ذي الفم الرقيق والشعر المتهدل فوق الجبين مثل الطريد من أحد معسكرات الانتقال.
لم يسبق لعلي ولا سبق له فقط أن رأى هذا الشخص في الحي، سبب ذلك أنه هو نفسه ليس قديما في الحي، بالأمس جاء من البادية البربرية إلى المدينة للبحث عن عمل، ولما لم يجد اشتغل مع شخص في بيع الحليب والرائب والزبدة والجبن، ولكنه انفصل عنه لأسباب تتعلق بسرقته هو رأس المال، غير أنه سرعان ما وجد لنفسه عملا مماثلا. كان ذلك لدى آخر يعمل ممرضا في مستشفى حكومي ويملك في نفس الوقت حانة لبيع الحليب والقهوة. لقد عهد إلي علي بالبيع والشراء فقط وإنزال ما بالسيارات المختلفة معظم صناديق المشروبات، وأخذ الخبز من صاحب السيارة الخضراء الذي يأتي لإبداله كل يوم. وفكر على بعد سكوت مصطنع: “لعله من مستشفى المجانين قد يكون ذلك” وأوضح صوته بالجهر:
-يجب أن تتكلم أيها السيد، ماذا تريد، هل أنت إسباني؟
… …-
إنه لو كان جريئا إلى الحد المرغوب للكمه على ذقنه المشعرة حتى يتقلب الآخر إلى الوراء، فوق الرصيف القذر بالماء الراكد دوما تحت قاعدته، ولكن عليا عاجز عن فعل شيء، سيما في هذا الليل، لقد أوضح له صاحب الحانة بأن لا يحدث له أي اضطراب أو فوضى من شأنها أن تخلق بعض مشاكل جزئية لدى المحكمة، ذلك أنه ليس لديه الوقت الكافي لمجابهة الخصم في القاعة حين يكون واقفا. إنه يريد أن يجد رزقه حلالا، ثم إنه يعمل يوميا دون انقطاع، فمستشفاه الكبير الذي أمم، يجب أن يطلى بالصباغة والجير في كل قاعاته ومختبراته، وهكذا كان خادمه علي، عديم المشاغبات مع كل الزبائن، حتى كان يتنازل لفرنك أو فرنكين أو ثلاثة فرنكات، بل لخمسة فرنكات أحيانا كيما يبدو ظريفا.
من فوق الرصيف الأيمن البعيد، كان شابان بعيدان عنهما يرمقانهما بتكاسل، كانا متكئين باسترخاء مقصود على عمود الكهرباء الطويل. ثمة فراغ كان يسمانه ذلك الليل، ومن حين لآخر، كانا يضحكان بفوضوية لموقف على الذي ملكه الرعب. إن أحدهما قد علم بعد تضمين أن عليا قد خاف، هذا لاشك فيه، لذا التفت حميد إلى صديقه يعد الذي كان في جانبه الأيمن وقال له والدموع المزيفة أخذت تنزل من فرط التثاؤب:
-انظر يا سعيد انظر، أو كذلك أن عليا قد خاف، إني أراهن على ذلك
-انتظر
رد عليه سعيد بلا مبالاة.
وفاجأه حميد مرة أخرى:
ولكن، يا للهول؟ لقد فزع كثيرا. أرأيته؟ إنه يبحث عن عصا، بل يريد إغلاق حانته. حتى الفتاة التي تأخذ الحليب الصغيرة ولت هاربة، أوه… استمع عليه على الأقل.
-ماذا؟ لست ساهرا معك حتى الصباح أيها السيد، يجب أن أذهب إلى منزلي لأنام، إني أستيقظ مبكرا خوفا أن أفقد زبنائي العمال.
… …-
-يجب أن تتكلم أيها السيد، يجب أن تتكلم، يجب أن تتكلم؟
وكان علي يذرع الحانة جيئة وذهابا.
-لا يجب أن تتكلم.. ماذا تريد إذا؟ اذهب..
… …-
-هه هه هه هه هه!…
كانت تلك، قهقهات الشابين البعيدين الواقفين فوق الرصيف.
لقد تعانقا من فرط الانفعال، كانا معا، يراقبان التصفية عن كثب، وكانا يسمعان.
-تبا لهذه الليلة المنحوسة، إني لست أدري من الذي رأيته في الصباح. واستمر يحملق في الأشهب الذي لم يتكلم في الذي ظل جامدا كالصنم.
ما زالت ضحكات الشابين المتقطعة كحبل تصل أذنيه. كانت تخترق ضمت الليل الأسود. ثمة طاووس كان يزعق ويصرخ. لقد اقترح حميد على صديقه سعيد بأن يقتربا لعلهما يطلعان على جوهر الموقف. لقد كانا منتشبين بانعزالهما ذلك البعيد وإذ عبر الطريق كلها، مر أمامها فجأة: شرطيان يتكلمان ببطء كان لابسين معطفين سميكين رماديين يقيانهما برد الليل، وكان كلاهما قابضا مقود دراجته القديمة ويجيب صاحبه باختصار دون أن يلتفت إليه، وأثناء سيرهما الرتيب ذلك. كان وقع حذاء أيهما الثقيلين الأسودين اللامعين يسمع من بعيد متوسط.
ولم يكونا مسرعين، كان يخيل للسامع أنه أمام جنود يمرون في استعراض رمزي، وكان يعقب ذلك الوقع: صوت السلسلتين المدهونتين بالزيت ذي اللون البنفسجي الذي يرى كذلك عندما يندلق على الأرض، مما اكتسب مشيتهما تلك، نوعان من الرهبة لدى المارة القلائل، وإذ لمحهما على خرج مهرولا إليهما، كان جريه مثل كلب أصيب في مؤخرة رجله الورائية اليسرى، كان ينحني ويقف كل مرة كمهرج أنهى دوره. ولقد وصلهما بعد جهد ليس بالقصير. قال:
حضرة الشرطيين، أرجو أن تأتيا معي إلى حانتي
-لماذا؟
سأله الشرطي الكبير:
-إن هناك شخصا وقف أمامي ولم يتحرك قط. لم يتركني أن أبيع. يجب أن تأتيا معي، أرجوكما.
-أين الحانة؟
استفهمه الصغير:
-إنها تلك التي ذات مصباح منظور في المقدمة، تلك التي تضيء المقدمة وجزءا من الرصيف.

وأشار بسبابته اليمنى النظيفة ملاصقا قميصه الأبيض بمعطف الشرطي. كان مثل ربان يستوضح بمنظار مكبر: سفينة للعدو قادمة.
-هيا
قال الشرطي الكبير لصاحبه:
-هيا
وداروا حول أنفسهم، كانوا يسيرون، وكان على وسطهما مثل لص ألقى عليه القبض مطرقا رأسه. كانوا يسيرون، وكان وقع حذاءيهما ينغص سكون الليل، ولم يكونوا يتكلمون، الآن يعلمون أنهم استدعوا لإنجاز عمل ما، لحماية نظام مثلا. لقد بلغوا الحانة جميعا، أما الرجل الأشهب فكان ينظر داخلها بصمت. كان لا يتحرك قيد أنملة، عيناه الضيقتان كانتا ملتصقتين بالجدار الأبيض الناصع، كانتا ترمشان باستمرار، وكأنهما تريدان النفاذ إلى المجهول، وكراهب في معبد يصلي كان ينظر ويحملق.
ثم وضع الشرطي الصغير دراجته فوق الرصيف، وقصده. كان صاحبه قد وقف ليراقب عمله بتراخ وقبض على الرجل الأشهب من ذراعه اليسرى برفق وقال:
إيه، ماذا تريد؟
… …-
نفس الجواب الذي من قبل يعيره لعلي، وأردف الشرطي:
قال، ماذا تريد؟
… …-
ولم يلتفت إليه، تمتم أخيرا بخفوت ضعيف:
-خبز… تان..؟
-خبزتان
… …-
وابتسم الشرطي الصغير بتكلف، إنه يعلم مبلغ تأثيره على الآخرين، ونزع قبضته من ذراعه كان الكلمة التي سمعها من فم الأشهب صادرة عن رجل مصاب بإمساك. لقد اجتهد الأشهب كثيرا في أن يلفظها، واستفهم الشرطي الصغير عليا:
«لماذا إذن، لم تعطه الخبز»؟
إنه لم يتكلم… إنه لم يتكلم، سألته مرارا في أن يقول شيئا، ولكنه لم يفعل، وما مجيئك إلى هنا إلا لفك هذا اللغز.
والتفت الشرطي الصغير حوليه: كان جمع ضئيل من رجال الحي وشبانه قد نبت كان واقفا يستفهم. إن هناك من يعرف الرجل الأشهب لا محالة. ولقد نطق أحدهم فجأة وكان ذا شارب طويل:
-آه الأشهب.. هو ذا بعينه: مصلح الدراجات المعروف، مسكين!
-هل تعرفه؟
قال الشرطي الكبير الذي لفت الانظار إليه:
مسكين، لقد أصيب بجنون خلال حوادث الأزمة، إننا نعرفه، إن هذه هي طريقته دوما. لم يسبق لصاحب حانة ما أو شخص ما أن اشتكى قط منه.
وتقدم صوب الجمع يريد افتراقه رغما. لكنه وقف عند عتبة الحانة:
لماذا أنت أيها القصير خفت، ألا تعرفه، مصلح الدراجات المعروف؟ وهز رجل بقربه رأسه مؤيدا، وقال آخر ذو شعر كثيف في اللحية والرأس.
-كان حانوته أحسن حانوت الحي في الصناعة، وفي الواقع، فإنه كان ماهرا في إصلاح الساعات اليدوية والمنزلية.
وقطعه ذو الشارب الطويل الذي تراجع:
-لا، بل حتى في الإذاعات، لقد كان أخي يتعلم لديه قبل أن ينطلق إلى المدرسة.
وأردف:
لقد كان سليم العقل، ولكن ابنته زهرة هي سبب جنونه، تلك الفتاة اللعوب ذات الشفتين الورديتين والعينين العسليتين الواسعتين مثل نظارة، ويقال بأن قمة جنونه، رؤيته إياها مع شاب أمريكي بشع في سيارة “فورد” يومها أخذت الوساوس تغزوه.
-حقا، كانت زهرة عشيقته، والكل يعرف ذلك، سيما المقربون إليه، ألم تهرب من المنزل عدة مرات ولا زالت؟
هكذا قرر الذي في اليسار، الشرطي الكبير من غفوته:
-والآن ماذا أنتم فاعلون، امنحوه ما أراد؟
وطالب الشرطي الصغير:
أعطه الخبزتين اللتين أرادهما. سوف تأخذ الثمن.
وأذعن علي للقرار الحاسم، وأخذ الرجل الأشهب الخبزتين الطويلتين بارتعاد. كان كمن أصابته حمى مزمنة، وجره الشرطي الصغير من ذراعه إلى وسط الطريق. كانت تتبعها نظرات الجموع التي أخذت في التناثر داخل الدروب. كان هم الشرطي أن يقلعه من باب الحانة كجذر. أوقفه ليصلح له المعطف، ولعنايته به، نسى دراجته فوق الرصيف التي صحبها معه صاحبه الكبير الذي بقي في المؤخرة. سارا وعندما بلغ فم الدرب المعتم الذي كانت القطط تمرح فيه، طلب من بعض معارفه أن يوصلوه معهم إلى منزله. ثم قفل الشرطي راجعا يعد ويفخر، كانت يده اليمنى على ظهر غلاف المسدس المثلث. وإذ بلغ صديقه الذي كان ينتظر عند ناحية الدرب، تسلم منه دراجته وأخذا يسيران. قال الشرطي الكبير وهو يصل:
-لو لم نأت لمات البربري فزعا
ورد عليه الصغير:
-بل لو لم نمر صدفة، لفقد رشده من جراء الخوف، أتذكر حادثة بائع الثياب في المدينة القديمة؟ وضحك الشرطي الكبير بعد أن نكس رأسه واستمرا يسيران سيرهما المعتاد.
كان الطريق مبلطا بقطع مستطيلة من الحجر الصلب، كان يبدو موحشا ومقفرا، وكانت المصابيح الطويلة المضاءة مثل مشانق موضوعة للإعدام أو كان وقع حذاءهما الثقيلين يوحى بدخول رجال الشرطة الحي الساكن. وسكنا جزئيا عند ما رأيا شخصا مر أمامهما بسرعة كان يجري وكانا قد ركبا دراجتيهما وتبعاه. وكان قد ابتلعهما الظلام.


الكاتب : إدريس الخوري

  

بتاريخ : 18/02/2022