من وحي ديوان «أنثى بلا أكفان»  للتشكيلية والشاعرة فدوى كدور

تعود هذه اللوحة للفنانة التشكيلية والشاعرة فدوى كدور التي تعتبر الأدب والتشكيل وجهين لعملة واحدة، بينهما برزخ يمنح لها مساحة تعبير رحبة وشاسعة، ولذلك أبت إلا أن توظفها كبوابة للولوج إلى مجموعتها الشعرية «أنثى بلا أكفان». وقد جاءت ببوح أنثوي محض، تجسد تلك المرأة العاشقة للحياة وهوية الوطن، والمنتفضة على تقاليد وعادات مشينة تمنعها من الانطلاق.إنها تلك الأنثى التي  تستمد وجودها بالاختلاف والحركة، وقد عبرت عن ذلك من خلال مفردات شكلية ولونية، لم يتم قذفها اعتباطا على القماش لتأثيث فقط  هذا الفضاء الموحش الذي يذكر باللحد ، ولكن لتمنحه أبعادا  فلسفية متعلقة بالحياة أيضا، وتمرير من خلاله رسالة إنسانية بطريقة تعبيرية مفعمة بالرموز، تميل إلى تمثيل الواقع بدون محاكاة، وبطريقة انسيابية تعتمد تكثيف اللون القاتم، حيث تم توظيف الصباغة المائية لإنشاء صورة صادمة ومثيرة، ليس بشكلها الجمالي، وإنما بصدق انفعالها الذي تستمده من وثبة خيالية، طرحت أمامنا  امرأة معصوبة العينين، يحيط  بجسدها النحيف قماط يشل الحركة، يعكس ما تعانيه المرأة من قهر في عالم أناني لا يشعر بوجود الآخر، توحي به خلفية صلبة بسوادها السلطوي، مما يعطي حسا بالعمق لمشهدٍ تظهر فيه  الأشرطة البيضاء حول الرأس والرقبة واليدين بارزة ونقية، مما يجعل إحساس النعومة والأنوثة مسيطرا على اللوحة، ويضفي عليها نوعا من السكينة تحد من الانفعال الذي  يخلقه هذا الرسم الذي يمثل أنثى تبدو أمامنا  وكأنها جامدة في مكانها، وواقفة وسط جماجم تمثل الماضي البائد ببعض عاداته المشينة التي لم تندثر مع مرور الزمن،  حيث بقيت تؤرقها ولا تريدها أن  تخطو وتتقدم .
تم تجسيد ذلك من خلال سلسلة جمجمية تظهر للعيان أمام الخصر، تذكر بحاجز منع التقدم إلى الأمام . وتبقى هذه الوضعية التي توجد فيها المرأة هي التي تخلق جوا سرياليا آسرا، سيما بفعل ضربات الفرشاة الناعمة،  ومقلقا في الآنِ نفسه جراء فضاء يغيب فيه الضوء، يتوسطه طيف آدمي يشبه مومياء تمشي على الأرض. وقد أبانت الفنانة عن علو كعبها وهي تستعمل رموزا وإيحاءات لإثارة الانتباه إلى  تلك الأنثى المحرومة من الحق في الحياة التي يتم لف جسدها بكفن وهي حية ترزق لتقييدها  ومنعها من الحركة. يعكس ذلك هذا الشريط الذي  يحيط بها من الرأس إلى البطن، والذي تم  تشكيله بخطوط أفقية تحيل على الحاضر، وتمنح البعد الزمني للوحة جريئة جاءت بلا تحايل، وكأننا بالفنانة تنظر بطريقة لاذعة إلى هذا العصر الذي يأبى أن يتخلى عن فكر لم يتطور مع مرور الزمن، ومازال مرهونا بالطابوهات التي لا تسمح للمرأة بالتخلص من ذلك الوشاح المعنوي الذي يخفي عينيها لكي لا تتمكن من تبادل النظرات ورؤية العالم من حولها، ويطوق عنقها ليحبس أنفاسها كي لا تتمكن من التصريح بمعاناته ،  ويقيد يديها لشل حركتهما، سيما وأن  لهما دورا كبيرا في تجسيد مشاعر المحبة ، فاحتضان المحبوب لا يتم إلا باليدين، وما دام بقاؤهما في القيد، يبقى هذا الحب مستحيلا.
يبقى هذا المشهد اللاواقعي،  يذكرنا بأرواح بئيسة ومقهورة  تعاني الكثير من الألم في صمت رهيب من خلال قماشة جاءت مفعمة بالإشارات، وبفضاء تطبعه رهبة السكون، لا يوجد فيه نور بقدر ما تغزوه عتمة ترمز  للسوداوية والحزن، تحيط بمحور  يبدو معزولا في فراغ دامس مهيمن، تنتفي فيه التفاصيل الجزئية، ويتم التركيز فيه فقط على  المحور ذاك، وهو امرأة  بدون وجه، أو شخصنة، ولذلك تبدو  وكأنها خارجة من قبرها على التو، تصرخ في صمت وتحاول التخلص من كفنٍ  يكاد يسترها ويمنعها من الحركة ، مما يجعل المتلقي يتفاعل كذلك و ينفعل مع حبها للحياة ورغبتها في العيش بروح جديدة، مستحضرا الفينيق، الطائر الذي ينبعث من رماده.
يكشف هذا البعد الأسطوري الذي تم تمثيله عن طبع مبدعة فيها شيء من الفراشة، يجعلها تتحول من شاعرة إلى رسامة، وكأنها بذلك تتحدى الموت المعنوي، سيما وأنها  واسعة الخيال،  تحب التغيير والتجديد،  وترفض أن تبقى محصورة داخل إطار ضيق، ولذلك تجدها في بحث دائم عن بساط سندبادي ليحملها إلى أفق رحب يمنحها مساحة للخلق والإبداع.
أمامنا صورة لا توجد إلا في مخيلةٍ تعكس تصور فنانة مشاكسة، تتعرف كل يوم على  أنماط من النساء بحكم مهنتها كمصممة أزياء، مما ألهمها عملا بتيمة أنثوية، جاء بالأبيض والأسود للإشارة إلى عدم تطور بعض العقليات التي تعجز على مسايرة إيقاع العصر، وكأننا بالفنانة الشاعرة ترسم قصيدة بحجم معاناة المرأة، تتجاوز مقاسها، تتمدد في الزمان والمكان وتتمطط طولا وعرضا  كي تحيط بكل الجوانب، وذلك بفعل تدفق اللون في انسياب تداعيات أسلوب تشكيلي يخلق التعجب والاستغراب، وينفذ إلى أعمق الأعماق، مما يدل على أن هذا العمل الفني مستوحى لامحالة  من قصيدة  نثرية. فالفنانة شاعرة بالفطرة رغم تكوينها العلمي، عشقت كتابة الخواطر منذ طفولتها، حيث وجدت في الأدب ذلك الجب الذي  تلقي فيه أسرارها ورؤيتها للعالم قبل الولوج إلى عالم  الألوان، والشروع  بعد صقل موهبتها في تقديم تجربتها  التشكيلية من خلال عرض أعمالها داخل المغرب وخارجه انطلاقا من فاس، المدينة التي تستقر بها حاليا.


الكاتب : عبد السلام صديقي

  

بتاريخ : 15/02/2025