من يركب العجلة؟


مثل النملة،
العجلة بالكاد انطلقت فوق صفحة بيضاء، حارس ليلها
نجم أعشى.

الآن، صارت تذرع أسطرا هيروغليفية، تماما مثلما يذرع حسون سطح بيت، ملوحة بالتحية إلى الحروف المتقافزة، اندهاشا، من على جنبات كلمات متراصة.

وحين تبلغ حافة هامش،
تترجل نحو أول عتبة، ثم تتدحرج في منحدر، على الإسفلت الداكن، بين حواري وأزقة.

ما إن تقترب من صبي، يقرفص عند باب، حتى يتهيأ لها واقفا، يقودها حيث اعتاد أن يقود إطار دراجته المطاطي بشغف طفولي.

بالشارع العام،
مزهوة تجري،
خلفها يجري كالسلوقي،
أفلت، على التو، طريدة له.

وفي انهيالها،
مخفورا بألوية وبيارق حمراء،
يرفع شارات نصر في وجه أعتى الأبراج شؤما.
الحياة، لن ينال منها أكثر مما خسرت منه.

تطحن الساعات طحن الرحى للشعير.
توصل الحطب إلى مدافئ المقرورين في الأقبية،
توصل النيران إلى الأحرار في أعالي الجبال،
الخبز إلى الجوعى في ليالي السغب،
ومتسلقي النزوات، المقيمين كما العابرين، إلى الطابق الأخير من جحيم سهرة الألف العاشرة.

لكأن ذبذباتها تلتقط على موجات النزع الأخير من سديم سيبيريا، تردداتها على إيقاع موسيقى هتشكوكية فزعة، حشرجاتها على كبسات مصور فوتوغرافي أعمى.

كلما هوت عجلة، قامت أخرى إلى عين الماء الوحيدة، عند التلة في أقصى درجات الغياب،
حيثما انعطف اتجاه،
أو التوت طريق.

في سباق ضد الساعة،
العجلة شبه الكرة، يتقاذفها صبيان في ساحة المدرسة، شبه الأرض لا يطمئن إلى قرار
لها قرص دوار.

العجلة،
تلك الدؤوب،
التي تنسرب خصلاتها اللاسلكية، المفتولة من أربع ضفائر، على وقع تقدم متسلق نحو سقوطه الشاهق، معمر ياباني نحو حتف أنفه، مراهن على صفقة عمر، دفعة واحدة، برأسه.

العجلة،
تلك المطمئنة في السلة،
التي تنطوي على كرة الفوز بالكارثة في جولة أخيرة.
في الشبكة،
التي يرفعها صياد تايلاندي إلى السماء، ثم يهوي بها، شاغرة فاها، في بركة ضحلة.

والعجلة،
في هرولة «همر» المذعورة،
تجوب أزقة «الموصل» تحت ضربات شمس غشت.
في خفة سيارة الإسعاف الوحيدة بالقرية، تقل ضحايا الإشعاعات، المقيدة دعاواهم، عن سبق وإصرار،
باسم مجهول.
في إطلالة حافلة القادمين إلى مساقط الضوء، حيث نادرا ما تنعكس أسطواناتها عند بزوغ أول خيط للشمس،
مرة كل أسبوع.
في تثاؤب شاحنة القمامة،
تزفر، بأدخنتها وزعيقها، عند استفاقة صباح متأخرة.

والعجلة
في عين المغامر،
تتحين خطف قبلة من خد عاصفة مرتقبة.
في انكسار قلب أم،
تتفرس ريح قميص، من خلف أبواب مغلقة.
في انثناء أصابع،
لا ترتبك في الإفراج عن رصاصات غادرة.
في انحناء كتيبات رمل،
تحت أقدام تاريخ دموي طويل،
لا يخط أبجدياته إلا ظالم منتصر.
في انكشاف سوء فهم عاصف،
لم يكن في دفتر حساب تسوية، أو تحت درج طاولة واطئ، لمجرد كلمة فاضت عن كأس أخيرة.

ما المعنى أن تكون؟
من جلد مطاطي؟ من كتلة لحم أم قماش؟ من لفافة تبغ كوبي؟ من عجين خبز أم من عجين لعبة؟ من حبكة شيطان أخرس؟ من حجر في دولاب تاريخ عميان؟

العجلة ذاتها،
كلما استعصى إطلاق سراح،
إيقاف إطلاق نار،
حيث الأطفال ينثالون، كما الفراش، من تحت مصابيح عمشاء.
كلما ساح نزيف دماغي،
في غرفة عناية مركزة،
تشرف من سماواتها أكثر من يد رجيمة.
أو سال ماء،
كل قطرة من سيل عرمرم،
بحساب قطرة من دم
مندلقة من على بياض شفرة.

العجلة
تطل من هناك على ضوء تنور، تقبل إلى محطتها ما قبل الأخيرة بسرعة جنونية.
هل كان لها أن تستفيق من غيبوبتها، وهي عالقة بأعلى شجرة بلوط، لاتزال تدور؟

كانت العجلة
لحظة أن كانت الطريق،
أن كانت أول كبسة لزر.


الكاتب : عبد الدين حمروش

  

بتاريخ : 05/01/2024