في زمن أصبح فيه توفير الحد الأدنى من العيش الكريم معادلة صعبة الحل، تتفاقم الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية للأسر المغربية تحت وطأة ارتفاع تكاليف المعيشة. الأرقام التي كشفت عنها المندوبية السامية للتخطيط في بحثها الصادر أمس حول مستوى معيشة الأسر بين 2022 و2023 – (حتى وإن كتبت هذه المرة بأياد ناعمة على عكس ما عودتنا عليه المندوبية من حياد وموضوعية في التقارير السابقة) ترسم صورة قاتمة للوضع، حيث باتت شريحة واسعة من المجتمع على حافة الفقر، متأرجحة بين تداعيات السياسات الاقتصادية والتقلبات التي شهدتها السنوات الأخيرة.
بلغ معدل الهشاشة في المغرب 12.9% سنة 2022، بعدما بلغ 7.3% سنة 2019 وبعد أن كان في حدود 12.5% سنة 2014، مما يعكس استمرار تعرض الأسر لخطر الانزلاق إلى براثن الفقر. غير أن المقلق أكثر هو أن هذه الظاهرة، التي كانت لسنوات تتمركز بشكل رئيسي في المناطق القروية، باتت اليوم تمتد بشكل متزايد نحو الوسط الحضري، حيث ارتفع معدل الهشاشة من 7.9% سنة 2014 إلى 9.5% سنة 2022، أي أن المدن التي لطالما كانت ملاذا للباحثين عن فرص اقتصادية أفضل، أصبحت بدورها مرتعا لمظاهر عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
الواقع الاقتصادي اليوم يرسم صورة متناقضة: فبينما تشير الأرقام إلى تحسن طفيف في متوسط دخل الأسر، إلا أن هذا الارتفاع لم يترجم إلى تحسن ملموس في مستوى المعيشة، بل تآكلت القدرة الشرائية بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة. فقد انتقل متوسط النفقة السنوية للفرد من 15.876 درهما سنة 2014 إلى 20.658 درهما سنة 2022، لكن هذه الزيادة لم تكن كافية لتعويض ارتفاع أسعار المواد الأساسية، حيث ارتفعت نسبة الإنفاق على التغذية من 37% إلى 38.2%، في مقابل تراجع الإنفاق على الرعاية الصحية، التجهيزات المنزلية، وحتى الترفيه والثقافة، مما يبرز كيف تحولت الأسرة المغربية إلى مجرد طاحونة استهلاكية موجهة نحو الضروريات فقط.
إضافة إلى ذلك، يظهر التقرير أن تكلفة السكن والطاقة ارتفعت بشكل ملحوظ، حيث انتقلت حصتها من 23% من ميزانية الأسر سنة 2014 إلى 25.4% سنة 2022، ما يزيد من الضغوط على ميزانيات الأسر. في المقابل، تقلصت النفقات على مجالات حيوية مثل النقل، مما يعكس تراجع قدرة الأسر على التنقل بحرية أو حتى امتلاك وسائل نقل خاصة، ما يحد من فرصها الاقتصادية والاجتماعية.
تحت هذه الأرقام الجافة تختبئ حقائق اجتماعية أكثر قسوة، إذ أن الفجوة بين الطبقات الاجتماعية تزداد اتساعاً. فالفئات الأكثر فقراً، والتي شهدت ارتفاعاً في مستوى معيشتها بنسبة 3.9% بين 2014 و2019، عادت لتسجل تراجعاً بنسبة 4.6% بين 2019 و2022. في المقابل، فئة 20% الأكثر يسرا حققت نموا بنسبة 1.4% خلال نفس الفترة، ما يكرس اتساع الهوة الاجتماعية ويجعل التفاوت الطبقي أكثر وضوحاً.
الطبقة الوسطى، التي لطالما اعتُبرت العمود الفقري للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، كانت أكبر الخاسرين، إذ لم تستفد من سياسات إعادة التوزيع، ولم تقو على مجاراة الغلاء والتضخم وارتفاع الأسعار. فبعد أن سجلت نموا بنسبة 3.3% بين 2014 و2019، عادت لتتراجع بناقص 4.3% بين 2019 و2022، مما يعني أن هذه الفئة أصبحت تعيش في وضع اقتصادي متأرجح، غير قادرة على الادخار أو تحسين مستوى معيشتها، وأقرب إلى الانزلاق نحو الهشاشة من التقدم نحو الرفاه.
ولا يقتصر الأمر على ذلك، إذ أن التفاوتات المجالية تظل ثابتة، مما يعني أن الفجوة بين الوسطين الحضري والقروي لم تعرف تحسناً منذ 2014. فرغم الجهود المبذولة، والخطابات المعلنة والميزانيات المهدرة بملايير الدراهم، لتقليص الفجوة، فإن سكان المدن لا يزالون يتمتعون بمتوسط مستوى معيشة أعلى بـ1.9 مرة مقارنة بنظرائهم في القرى، ما يعكس استمرار الإقصاء الجغرافي والاقتصادي لفئات واسعة من المجتمع المغربي.
وفي جميع الأحوال لا يمكن قراءة هذه الأرقام بعيدا عن سياقها السياسي والاقتصادي. فالسياسات الاجتماعية التي استهدفت الفئات الأكثر فقرا حققت بعض النتائج، لكنها في المقابل لم تأخذ بعين الاعتبار الفئات غير المستهدفة، التي أصبحت تعاني من تآكل مكتسباتها. كما أن التضخم وارتفاع أسعار المواد الأساسية، نتيجة الأزمات الاقتصادية العالمية وسوء تدبير السوق الداخلية، زاد من تفاقم الأوضاع.
الحكومة تجد نفسها اليوم أمام مسؤولية جسيمة، فلا يكفي الحديث عن برامج دعم اجتماعي دون إصلاح عميق يطال منظومة الأجور، وتحسين القدرة الشرائية للأسر، وضبط الأسعار، وتعزيز سياسات إعادة التوزيع العادل للثروة. فالتفاوتات الاقتصادية المتزايدة ليست مجرد أرقام على الورق، بل هي قنابل اجتماعية موقوتة قد تزعزع الاستقرار إذا لم يتم احتواؤها بسياسات أكثر جرأة وإنصافا.
المغرب يعيش على وقع مفارقة صارخة: تحسن على مستوى متوسط الدخل، لكنه لا ينعكس على حياة المواطنين بفعل ارتفاع تكاليف المعيشة واتساع الفجوة بين الطبقات. وبينما تواصل الهشاشة تمددها في المدن، وتزداد مخاوف الأسر من الغد، يبقى السؤال الأهم: إلى متى ستظل الأسر المغربية تدفع ثمن الخيارات الاقتصادية غير المتوازنة؟