مهرجان مراكش الدولي للفيلم : «الضوء الأول» : فيلم هادئ يزلزل أسئلة الأخلاق
-
-
- يشارك فيلم «الضوء الأول» في المسابقة الرسمية لمهرجان مراكش الدولي للفيلم، متنافساً على النجمة الذهبية في دورة تُعرف بانفتاحها على الأصوات الجديدة التي تحمل رؤى قادرة على توسيع أفق السينما العالمية. ويقدّم هذا العمل الأول لمخرجه الفليبيني ـ الأسترالي جيمس روبنسون حضوراً لافتاً بفضل نبرته الهادئة، وعمقه الإنساني، وبنائه البصري المحكم الذي يشي بمولد صوت سينمائي يمتلك من الحساسية ما يكفي ليصنع فرقاً داخل مشهد متحوّل ومزدحم.
- منذ مشاهده الأولى، يضع الفيلم المتفرج داخل عالم من العزلة والرهبانية، عالم مغلق على ذاته في صمت كثيف يخلق طبقة من التوتر الداخلي. في هذا العالم تعيش الراهبة المسنّة يولاندا، التي تجسدها بمهارة أسطورة السينما الفلبينية روبي رويز، والتي تبني حضورها على قوة النظرة وشفافية الشعور. تصل إلى هذا الفضاء الهادئ الأخت أرلين، شابة يلف الغموض ملامحها، فتنشأ بينهما علاقة روحية دقيقة يصنعها الاشتراك في هشاشة وجودية أكثر مما يصنعها الحوار أو الطاعة الدينية. غير أن هذا التوازن لا يلبث أن ينكسر عندما تُستدعى يولاندا لأداء الطقوس الأخيرة لشاب يحتضر في موقع بناء. الحدث البسيط يصبح بوابة إلى عالم آخر، عالم تهيمن عليه المصالح والتسويات والانتهاكات التي ترتدي عباءة الواجب. هنا تجد يولاندا نفسها داخل شبكة معقدة من الفساد الأخلاقي، وتدرك تدريجياً أنّ المبادئ التي بنت عليها حياتها يمكن أن تتحول إلى أدوات لتبرير ممارسات كانت تراها نقيضاً للإيمان.
- وتبلغ الأزمة ذروتها حين تواجه يولاندا عبارة جارحة تكثّف موقف العالم الخارجي منها: «لقد قضيتِ وقتاً طويلاً داخل هذه الجدران حتى صرتِ ساذجة أمام ما يحدث في الخارج. الحكم لله، لا لكِ.» هذا الحكم ليس مجرد إهانة، بل إعلان صريح عن صدام بين عالمين: عالم الطهرانية التي ترفض التلوّث، وعالم الواقعية القاسية التي تُعيد تشكيل الأخلاق تحت ضغط القوة والمصلحة. هكذا يطرح الفيلم سؤالاً وجودياً ينساب في ثناياه بصمت: هل يمكن للإيمان أن يصمد أمام واقع يُعاد فيه تعريف الخير والشرّ كل يوم؟ وهل اتساق الذات ممكنٌ في عالم لا يكافئ الاستقامة؟
- تتعمّق هذه الإشكالية من خلال بناء بصري بالغ الحساسية. فقد صُوّر الفيلم على شريط 35 مم وبدقة 4K، وهي خيارات تقنية تكشف رغبة في إضفاء ملمس مادي على العالم المعروض. الضوء والظل والملمس والنَفَس المادي للصورة كلها عناصر تُستخدم لإنتاج معنى، لا لتزيين المشهد. الغيوم الثقيلة، خيوط الفجر المترددة، شارع النهار الصاخب، والشموع المرتعشة على المذبح، جميعها تتحرك داخل إطار يكاد يتنفس. لا شيء هنا زخرفياً؛ كلّ تفصيلة مرسومة بإحساس روحي يجعل من الصورة وسيلة للتفكير كما لو كانت امتداداً للضمير المعذَّب لشخصيات الفيلم.
- ويتوازى هذا العمق الجمالي مع قصة إنتاج لا تقل درامية عن الحكاية نفسها. فقد واجه روبنسون ظروفاً مناخية قاسية، وتعقيدات بيروقراطية منهكة، وتصاريح تصوير تتجاوز بكثير المعتاد في الإنتاجات الفلبينية. كما شهد موقع التصوير طقوساً وقرابين أداها شيوخ السكان الأصليين لضمان السير الحسن للعمل، وصولاً إلى تنفيذ عملية لطرد الأرواح الشريرة، في استعادة واضحة للتراث الميثولوجي الذي طالما أحاط بإنتاجات سينمائية كبيرة صُورت في الفلبين، مثل «نهاية العالم الآن» و»الفصيلة»و»الخط الأحمر الرفيع». بهذا المعنى، يصبح الفيلم توليفة تجمع بين الواقعية القاسية والروحانية المتجاوزة، ليس فقط في قصته، بل في عملية صنعه ذاتها.
- ويمثّل روبنسون في هذا العمل حالة خاصة، فهو فنان بدأ من عالم الفوتوغرافيا، وقد عُرضت أعماله في مؤسسات مرموقة مثل نيويورك تايمز وفوغ والمعرض الوطني للصور. هذه الخلفية منحت الفيلم بصمة بصرية لا تخطئها العين، إذ تتحول العدسة لديه إلى أداة تأمل تلاحق التفاصيل الهامشية: وجوه مغمورة بضوء خافت، مساحات مشبعة بالرطوبة، لحظات صمت تشير إلى أكثر مما تقول. ومع أن الفيلم ينبني على جماليات الصورة، فإن روبنسون يثبت قدرته على تحويل هذه الحساسية إلى سرد، وعلى قيادة ممثلين يقدمون أداءً داخلياً بالغ النضج، وعلى خلق مناخ سينمائي يشبه صلاة تتردد في قلب العاصفة.
- ومن خلال مشاركته في المسابقة الرسمية بمراكش، يدخل «الضوء الأول» منافسات النجمة الذهبية بوصفه فيلماً يراهن على الصدق أكثر من الصدمة، وعلى العمق أكثر من الاستعراض، وعلى الصورة كأداة للمعنى لا للزينة. إنه فيلم يستكشف هشاشة الإنسان وصلابته في آن، ويعيد طرح سؤال الإيمان حين يواجه الواقع، ويمنح المسابقة الرسمية طبقة مضافة من الجدية والجمال والبحث الروحي. بهذا العمل، يقدّم روبنسون نفسه كأحد الوجوه الجديدة التي تستحق المتابعة، ويقدّم فيلماً يظل أثره هادئاً، لكنه لا يزول بسهولة.
الكاتب : عبد الصمد الكباص
بتاريخ : 04/12/2025