مهنة التعليم: ثلاثة مفاتيح للجاذبية المفقودة

المفاتيح الثلاثة لتحفيز الموارد البشرية: في المشاورات الوطنية الجارية حول تجويد المدرسة العمومية أسئلةٌ ونقاشاتٌ حول وضعية المهنة في عيون مزاوليها.. ورؤاهم لجعلها ذات جاذبية لدى الأجيال الصاعدة..والإجماع السريع منعقد بلا استثناء أن هذه المهنة- اليوم- تعيش وضعا منفرا يجعلها في كثير من الأحيان مهنة الخلاص الاجتماعي لا أكثر..مهنة الاضطرار لا الاختيار..
وأدلة هذا الإجماع كثيرة متواترة ليس أقلها هروب الأعداد الغفيرة من رجال ونساء التعليم من باب المغادرة الطوعية سابقا، ثم من بوابة التقاعد المبكر.. زد على ذلك رفض الباقين لتمديد سن التقاعد ولهفتهم الكبيرة المعبر عنها صراحة لترك المهنة..
والبقية الصامدة لا تتردد في إعلان حسرتها على زمن مضى، وخيبتها من واقع قاس تتمطى نذره على الآفاق..!
ما الذي أوصل هذه المهنة النبيلة إلى هذا الوضع المأساوي..؟
العوامل والأسباب كثيرة.. وقد تم تشخيصها وبثها في كثير من اللقاءات والتقارير والدراسات.. لذلك فالمعول عليه في هذا المقال هو بسط عدد من مفاتيح استعادة هذه الجاذبية، وصناعة وضع مهني يقبله أهله، ويتطلع إليه غيرهم من القادمين نحو الوظيفة العمومية..

أولا:الوضعية المادية:

لا اختلاف حول المعاناة المادية التي يعيش في نفقها رجال ونساء التعليم.. جل أمانيهم المادية مؤجلة أو متعذرة بالمرة.. لا لشيء إلا لأن أياديهم قصيرة لا تبلغهم نيل كل متطلبات الحياة الكريمة مقابل جهودهم الضخمة التي يبذلونها لصالح المنظومة التربوية.. ولذلك بإحصاء بسيط في نوعية المستفيدين من القروض الاستهلاكية ستجد رجال ونساء التعليم في المرتبة الأولى بلا نزاع…
والذين لم يتوجهوا إلى هذه الأبناك ستجدهم لا يقر قرارهم من الدوار في «الدايرات».. بها يبنون مساكنهم إن بنوا.. وبها يشترون سياراتهم إن اشتروا..وبها يقضون أيام عطلهم Yن سافروا.. هل يمكنك أن تنتج منتوجا تربويا جيدا وأنت تعيش وسط طاحونة قاسية لا ترحم من العجز المادي الجاثم على صدرك بكلكله منذ دخولك المهنة إلى تقاعدك أو موتك..؟
هذا الوضع المادي المذاع والمشهود بين عموم الناس، يجعل الإقدام على دخول المهنة ممن وجد خيارات أخرى مقامرة مرفوضة لأنها ترادف أبدية المعاناة وسيزيفية الشقاء.
وعليه، فإن كل فتاوى التجويد والجاذبية لن تصيب هدفها في تطوير منظومتنا التربوية ما لم تأخذ بعين الاعتبار والأولوية العاجلة الرقي الحقيقي والفعلي بالوضعية المادية لرجال ونساء التعليم.. وبقية العوامل هي تبع لهذا الأول بلا ريب ولا تردد.

ثانيا:الوضعية الاعتبارية

في السنوات الأخيرة تناسلت قصص محزنة طارت بها فيديوهات سيارة عن رجال ونساء التعليم وهم يتعرضون لأنواع من التعنيف والسخرية والحط من الكرامة.. وهذا مدخل خطير يفقد المهنة جاذبيتها بالنسبة للأجيال القادمة، ويجعلهم يستعيذون بالله من ولوج وظيفة يتعرض أهلها لهذا الكم الكبير من الاحتقار والظلم..(وقد عبر متعلمون عن هذا صراحة)..
لذلك فإن رؤية التجويد مدعوة لتقديم رزنامة من القوانين والمذكرات التي تعيد للمدرسين هيبتهم التربوية، وتعلي من شأن كرامتهم، بل وتجرم كل محاولة للاعتداء اللفظي أو الجسدي عليهم.. وفي ذلك حماية للمنظومة التربوية من أفعال الحط والهدم، وفعل حقيقي لاستعادة الثقة في المدرسة ومواردها البشرية..
إن عددا من النصوص التربوية بقدر ما استجابت لالتزام المغرب في مجال حقوق الطفل / المتعلم، وعملت على حمايته وتمكينه من حقه المقدس في التعلم وفق ظروف مناسبة آمنة.. فإنها لم تحقق التوازن المطلوب بتسطير التزامات مقابلة ومكملة تحمي الموظف التربوي، وتشعره بالأمان التام وهو يؤدي دوره بأريحية واعتزاز..
في جعبة كل واحد منا عشرات من القصص والحوادث المؤسفة التي صاح فيها المدرسون صيحات ألم وتظلم..لكنها تبددت في الخلاء المقفر..

ثالثا:الكفاية التكوينية:

المفتاح الثالث لاستعادة المهنة للجاذبية المفقودة هو تمكين المدرسين من كفايات تكوينية متينة وحديثة(معرفية، بيداغوجية، ديداكتيكية..).
وسواء أتعلق الأمر بالتكوين الأساس أم بالتكوينات المستمرة، يجب القطع مع هذا الفراغ المخيم على المدرسة في ما يتعلق بتأهيل العنصر البشري فيها لمواكبة المدرسة الحديثة في القرن 21..
لقد عبر كثير من المشاركين في المشاورات المذكورة عن حسرتهم واستغرابهم لمضي سنوات عديدات دون أن يستفيدوا من أي تكوين مهني يجعلهم يشعرون بالحيوية والتجديد في أداء مهامهم..مما يسقطهم في الشعور القاتل بالروتين الممل وهم يتوجهون إلى المدرسة..كما عبروا عن استعدادهم القوي للانخراط في مشاريع التكوين المستمر لفائدة تجويد الفعل التربوي..
من أين لنا بتحقيق الجاذبية لهذه المهنة، وعدد كبير من أفرادها لم يستفيدوا من تجربة التكوين المستمر بعد عشرين سنة- ويزيد- من العمل في الفصل الدراسي.. اللهم إلا ما كان من لقاءات تربوية يعقدها السادة المفتشون لمقاربة قضايا معينة في سيرورة المنهاج التربوي وفق سياقات والتزامات مغايرة ..؟
هذه – في نظري- هي ثلاثية المفاتيح الكبرى لتحقيق الجودة المنشودة على مستوى أداء الموارد البشرية في منظومتنا التربوية.. وغير هذه المفاتيح من العوامل المساعدة المهمة كثير.. لكنه يظل بمثابة التفاصيل المكملة لعناصر المشهد الكبرى..

(*)مفتش تربوي


الكاتب : محمد شهبون (*)

  

بتاريخ : 16/06/2022