«موسم الهجرة من الشمال»

“وتسأل:
ما معنى كلمة وطن؟
سيقولون: هو البيت، وشجرة التوت، وقن الدجاج، وقفير النحل ورائحة الخبز والسماء الأولى.
وتسأل: هل تتسع كلمة واحدة من ثلاثة أحرف لكل هذه المحتويات وتضيق بنا؟

محمود درويش

حين يضيق الوطن، تتسع الغربة في العيون.
تضعنا واقعة “الهروب الجماعي” ليوم 15 شتنبر الجاري بمدينة الفنيدق وجها لوجه أمام سؤالي الانتماء والدولة الاجتماعية التي كثر استعمالها في الخطاب السياسي بالمغرب خاصة بعد جائحة كورونا، لأنها تسائل في العمق هذا النموذج التدبيري وتؤشر على أزمة هيكلية في السياسات الاجتماعية والاقتصادية عنوانها الفشل الكبير.
“موسم الهجرة من الشمال” يعيد أيضا طرح سؤال الانتماء من باب علاقتنا بالوطن: كيف يتمثل المغاربة وطنهم؟ هل يختصرونه في الأرض؟ في الكرامة؟ في السقف؟ في الخبز أم في الحق؟
ولعل أبلغ جواب هو ما قاله جون جاك روسو عندما سئل عن معنى الوطن فأجاب: الوطن هو المكان الذي لا يبلغ فيه “مواطن” من الثراء ما يجعله قادرا على “شراء” مواطن آخر، ولا يبلغ فيه “مواطن” من الفقر ما يجعله مضطرا لأن يبيع نفسه أو كرامته وأضيف في حالتنا المغربية أن يضطر للرحيل ومغادرة بلده.
معطلون، قاصرون، نساء، أطفال…. اختاروا “الحريك” ولعل بلاغة الكلمة تختزن وتختزل كل معاني الاحتراق والاندثار حين تنتفي الكرامة …إنهم لا يغادرون وطنا بالمعنى الوجداني والوجودي، لكنهم يغادرون أرضا تسمى مجازا “وطنا”، ولا يهم أن يعانقوا أشرعة الموت أو أن تكون كلفة الهروب من الوطن هي الموت.
إن نجاح الدولة يتمثل في قدرتها على محو الهوة بينها وبين الوطن، الوطن كارتباط وجودي للإنسان بأرضه وتجربته الوجودية، والتفاصيل الصغيرة التي تشكل علاقته به والتي لا يمكن التخلص منها مها طرأ من تحولات.
لكن الدولة، في شخص الحكومة، فشلت في توليد هذه المعادلة بل عمقت الإحساس بالتهميش والإقصاء والحرمان من أبسط مقومات العيش الكريم التي تحفظ الكرامة، وبالتالي ساهمت في إضعاف وتقليص هذا الشعور بالانتماء.. الانتماء إلى وطن يحتوي المواطن، وجدانيا، اجتماعيا، وليس جغرافيا فقط، وطنا يكون مختبرا لتناسبية عادلة يتحقق فيها التجاوب مع الحقوق والواجبات.
إن واقعة الهروب الكبير يوم 15 شتنبر بالفنيدق ليست إلا محصلة لمسار شاق وصعب عنوانه الكبير “الحكرة” والجبروت، جبروت زواج السلطة بالمال في مواجهة المواطن الفقير، المجاز العاطل، الطالب الباحث عن أفق، الطفل المتشرد، المثقف الذي لايزال يؤمن بأن الشمس” عم بتضوي ع الأفكار الحرة”… جبروت حكومة صنعت مثقفيها، نخبها، مؤثريها، صحفييها، فنانيها وقالت للآخرين:
“سلاما وليشربوا البحار” كما قال الشاعر المغربي الراحل عبد الله راجع ولو أن السياق غير السياق.
واقعة الفنيدق فندت الحكمة المغربية الشعبية من قبيل
“قطران بلادي ولا عسل بلادات الناس”، بل أكدت حقيقة أكثر مرارة هو أنهم يهربون من الوطن بحثا عن المواطنة وإنهم يفضلون عسل البلدان على قطران بلادهم الذي “سوّد” عيشهم بعد أن أعياهم انتظار الحياة كثييييرا.
فهل حقا “على هذه الأرض ما يستحق الحياة؟ كما قال محمود درويش، وهو يحلم بوطن تحرسه
“أمهات تقفن على خيط ناي
وخوف الغزاة من الذكريات”
ويا للمفارقة الصارخة حين يداهمنا سؤال: لماذا يقاوم الإنسان الفلسطيني بإصرار عنيد لأكثر من 70 سنة المحتل الاسرائيلي، ويتشبث بوطنه وتربته في مواجهة أععتى الترسانات الحربية دون أن يكل أو يمل، أو يفكر في الرحيل؟
إنه ببساطة يقاوم محتلا معلنا، يقاوم أملا في استقلال، متسلحا بجذوة الانتماء، وحالما بعيش كريم، لكننا في حالتنا المغربية أمام عدو أكبر وورم مستفحل اسمه الفساد، الظلم، الحكرة، الفقر وانسداد الآفاق حيث تصبح حينها الهجرة جوابا عن أسئلة الحاضر الحارق والمستقبل المبهم. حينها يضيق الوطن ويصبح هو نفسه منفى، لكن هل حقا يضيق الوطن بأبنائه أم أن هناك من “يضيّقه” عليهم؟
شباب استبد بهم اليأس، بل صاروا “صائبين في يأسهم” بتعبير الروائي اللبناني أمين معلوف في روايته “التائهون”.
الوطن يعني أن نُوطِّن الإنسان أولا، لأن الهجرة الحقيقية والغربة العميقة تبدأ داخل الوطن قبل أن تتجاوز ترابه وحدوده.


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 20/09/2024