«مولاي المهدي العلوي.. أحداث ومواقف»

ضد الذاكرة الشُطَّارية

 

يضع هذا الكتاب مسافة صريحة بين التاريخ والنزعة الشُطَّارية (أو البيكارسكية) التي تتحلى بها الشخصية المصارعة والمتمردة وغير المنصاعة للقواعد. فنحن لا نقتفي أي «أسطورة» تتطور بنظرة تبتعد عن الالتزام بـ»الحقيقة» بمعناها الأخلاقي، خارج الإشكالات الفلسفية التي يمكن أن يثيرها مفهوم الحقيقة في علاقته بالذاكرة والتاريخ.
ليس هناك، في هذه المذكرات، أي انجرار أمام المنطق التخييلي الذي يمكن أن يطرحه استدعاء الذاكرة، كما ليس هناك أيُّ اندفاع وراء خلق «الأوديسا الشخصية» الذي لاحظناه في الكثير من مذكرات المغاربة والأجانب، سواء أكانوا أدباء أم سياسيين أم مفكرين أم فنانين. إن هذا الإغراء الذي تمارسه علينا الذاكرة يخفت بوضوح في هذا الكتاب، رغم أنني أزعم أن حياة صاحبها بحر مضطرب. لم يمارس علينا «الركمجة»، ولم يتحيز لما يسميه رولان بارث «التصوير الإشعاعي للسيرة». لم يضع أمامنا أساطير صغيرة، ولم يسع إلى «الشجب السياسي» الذي يبعد أثر الآخرين إلى الخلف. بل على العكس تماما، جعلنا نشعر بأنه بأن صاحب ذاكرة فارغة من متطلبات الخيال.
حينما زرته في بيته، أول مرة رفقة المدير المكلف بتسيير وكالة بيت مال القدس، محمد سالم الشرقاوي؛ وبعدها رفقة أخي وصديقي الديبلوماسي محمد بنمبارك، اتفقنا جميعا على أن هذا الكتاب يجب أن «يقلد صاحبه». ومعنى ذلك أننا اتفقنا أن الذاكرة موقف مشترك، وأنها لن تعزز شرعيتها إلا باقتناص ما هو «حقيقي» و»متفق عليه» في سياق الخلافات اللانهائية التي هيمنت على «قوة التغيير الديمقراطي» بين زعماء الحركة الوطنية والقصر، وبين هؤلاء الزعماء أنفسهم في لحظة اتسمت بالحيوية والتنازع السياسي والإيديولوجي.
لقد كان واضحا أن فك الارتباط بين «ما وقع» و»ما كان ينبغي أن يقع» لا يمنح نفسه بسهولة، إذ لا يمكن حصره، مثلا، في أحداث اقتطعت من سياقات إنتاجها. ولهذا، أزعم أن الإيديولوجيا، رغم أهميتها، هي المركز الفارغ لكل القراءات التي لم تسع إلى ملء تثغيرات الصراع بين الحزب والملك، وبين هذا الزعيم الحزبي وذاك، وبين الحزب والنقابة، وبين التيارات التي كانت تُشكل عروق الحزب وجسده.
إن ما شد انتباهي لـ»سردية» هذا الكتاب هو إدراك مولاي المهدي العلوي لشيء بالغ الأهمية: هناك أصل للوجود التأسيسي لمركز الأشياء، أو بمعنى آخر إن «سردية التوافق السياسي» التي نصنعنا اليوم لها أصل سابق وقعت محاولة حجبه وطمسه، وأن الصراع (أو الاقتتال) كان مجرد تعويض ذاتي عن حرج كبير بين «اليسار الوطني» والملكية. ومن ثمة، فإن الهاجس الذي يحرك هذا الكتاب هو إنهاء طمس التوافق، بل الأحرى إعادة بنائه على أساس استدعاء رموز دائرة المواجهة، ومحاولة إضفاء «لمسة التنظيف العام» لما وقع، حسب ما نقلته «سرديات الذاكرة» التي تمكنها من الاطلاع عليها من هذا الطرف أو ذاك.
تبعا لكل ذلك، فإن مولاي المهدي العلوي، لم يكن مهتما بما يُلفت النظر إليه كرجل سياسي وطني وديبلوماسي، رافق الكبار وأسهم باقتدار في إنتاج «لحظة الاستقلال»، بل كان همه الأساس هو الانتصار الشامل للنقد والحقيقة، خارج الفكر السياسي الفاسد الذي يعرف كل شيء ويشرح كل شيء ويؤول كل شيء.
لم يَسع رفيق المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمن اليوسفي إلى «إعطاء هيبة تاريخية للسخافات»، كما لم يسع إلى حقن مذكراته بأي رومانسية كاذبة. وهذا ما منح، في اعتقادي، حرارة لهذه المذكرات، وجعلها ملتزمة بحقيقتها التي تتجاوز حتى صاحبها، بل جعلها تنجح في تجاهل الترابط الممكن بين البيوغرافي والخيالي، لصالح «التاريخ المشترك». تاريخ جيل صنع الاستقلال، وتقلب على نحو تراتيجيدي في صراعاته، وقاسى من تجاذبات كل السلط التي أفرزها. سلطة الملكية. سلطة الحزب. سلطة النقابة. سلطة القوى الخارجية..
في هذا الكتاب حيوات متجاورة ومتعددة، لكنها لا تؤسس تطوراتها على ما يمكن أن نسميه «الانبعاث الفردي». هناك استعراض لأحداث تاريخية وقضايا سياسية مرتبطة، أولا، بالانخراط المبكر في الحركة الوطنية (حزب الاستقلال)، ثم المساهمة الفاعلة في تأسيس الحركة الاتحادية، وفي القيام بمهام نضالية دبلوماسية لصالح الحزب الذي ينتمي إليه مولاي المهدي العلوي. وأيضا من موقعه كسفير للمغرب، وبتجربته كرجل دولة، وكفاعل حقوقي وسياسي عايش مخاض العمل النضالي لسنوات طوال، قبل وبعد الاستقلال، في سبيل المبادئ التي آمن بها وناضل من أجلها إلى جانب إخوانه مناضلي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
إن الشهادة التاريخية التي يسعى هذا الكتاب إلى تدوينها لا ترتبط، في اعتقادي، بالماضي على نحو يمجد الذات ويعطل الحاضر، بل على العكس تماما، هناك طموح واضح لا يخفيه صاحبه إلى تحرير هذا الماضي من أساطيره المؤسسة، لإعلاء المستقبل عبر القراءة الجيدة لما عاشه المغرب، دون أي تحيز لهذا الطرف أو ذاك. ولذلك لم يقدم إلينا «الحقيقة الحزبية»، كما تلقيناها وصدقناها دون تمحيص، كما لم يقدم لنا «الحقيقة الرسمية»، كما حُشرت حشرا في كتبنا الدراسية، وفي الدماغ. وقد اختار أن يقدم «حقيقة الشاهد»، لأنه يدرك أن الحقيقة تحب القناع، وأن كل إيديولوجيا تصر على صنع حقائقها، والإصرار على تكرارها حتى يصدقها الناس.
إنني أكاد أجزم أن مولاي المهدي العلوي، وهو يسرد روايته السياسية لما وقع داخل حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (الاتحاد الاشتراكي، لاحقا)، وبشكل خاص لسوء الفهم القاتل الذي وقع بين الحزب والملكية، كان يقودنا إلى الآليات اللاشعورية التي صنعت التناوب التوافقي، وأخرجته من التأجيل المستدام إلى التحقق الفعلي. ولعل هذا ما عبر عنه المفكر المغربي محمد عابد الجابري في نصه الشهير (المغرب… إلى أين؟ مستقبل التجربة الديمقراطية في المغرب)؛ حين اعتبر أن التاريخ يفرض نفسه كوسيلة ضرورية لفهم أي شأن من شؤون المغرب، وأن ما عشناه مع تجربة التناوب «حلقة في مسلسل من الاستمرارية»، لا يمكن شرحها بدون الرجوع إلى الوراء.
إن هذا الكتاب (أحداث ومواقف) يضع نفسه بوضوح تام ضد الموقف التقليدي للحقيقة التي تمجد الصراع وتؤبده أو تؤصله، وتسعى إلى بناء ذاتها على نقيض ما هو أصلي؛ والأصلي، في ما نقرؤه هنا، هو ذلك الالتحام بين القصر والحركة الوطنية من أجل تحقيق الاستقلال، بينما الهامشي هو ذلك الصراع الضاري بين برنامجين سياسيين لبناء الدولة، أحدهما يحاول إلغاء الثاني بكل الطرق الممكنة، إلى حد التصفية الجسدية (المهدي بنبركة وعمر بنجلون)، أو الانقلاب العسكري، أو استزلام أطر الفريق الآخر واحتوائهم عبر الإغراءات المادية والسياسية (الريع). والثمن هو أن المغرب تحول إلى بلد «الفرص الضائعة»، فتجمَّد حاضره في ماضيه، مع ما انطوى عليه ذلك من استنزاف متبادل.
هذا هو الموقف الاستراتيجي، بتعبير ميشيل فوكو، الذي يقدمه هذا الكتاب الذي يواجه، بهدوء واتزان، الكثير من المواقف الإيديولوجية المضادة، والكثير من «الأساطير» التي ما زالت تمشي على قدميها، والكثير من الكليشيهات التي حولت السياسة إلى «ممارسة حربية» يجوز فيها استعمال كل الضربات، علما أن الأصل في الديمقراطية هو «تعايش الأضداد».
ما يثير الانتباه أيضا في هذا الكتاب أنه لا يمتدح الخطأ، ولا يُحَقِّرُه، بل يسعى بلغة تكاد تخلو من الانفعال الخطابي، إلى إرشاد القارئ نحو حقيقة أن الحدود لم تخلق إلا للعبور، وأنها هي ما يسمح بضبط العناوين والجغرافيات. هذا هو «الصوت الخفي» الذي استحكم في هذه الشهادة غير المهووسة بالتلصص والتقول. فهو يسرد الأحداث التي عاشها، لا لينفخ فيها أي تضخم للأنا، بل ليضع اليد على المفاتيح التي تسمح لنا بالدخول الهادئ إلى «حقيقة ما جرى»، أثناء الصراع بين الاتحاد والملكية، ودور «القوة الثالثة» في تأجيج هذا الصراع، وتعطيل التقارب بين الجانبين. من قتل المهدي بنبركة؟ من قاد الانقلابين العسكريين؟ من قتل عمر بنجلون؟
إن المقصود بـ»النفس الديبلوماسي»، الذي أعتبره روح الكتاب، هو امتلاك قدرات واضحة لتصريف الكلام، باستعمال الذكاء والكياسة والإقناع بما جرى في منطقة التمثيل (والمنطقة المقصودة هنا هي الشهادة أو المذكرات بكل جغرافياتها). ولهذا يتكئ كاتبنا، على ركيزتين أساسيتين هما: «العقلانية» و»الواقعية» كمدخل إستراتيجي لقراءة التاريخ، بدل القراءة من داخل النسق الإيديولوجي الحزبي.
لا نعثر في هذا الكتاب إلا لماما على نبرة غضب أو انزعاج، ليس امتثالا حرفيا لـ»البروتوكول الديبلوماسي» المؤسس على الحوار ومد الجسور وتقريب الرؤى ووجهات النظر، بل الأحرى تحيزا للتعفف والأخلاقيات التي تربى عليها ونشأ في كنفها. إنه يوثق للأحداث المهمة والدالة.
وهنا لا بد أن أشهد أن مولاي المهدي العلوي وَضَعَ الكثير من الأحداث التي رواها خارج المتن، ليس بدافع «الرغبة في الصمت»، وإنما لأنه يريد أن يرسخ الكلام الأساسي على حساب النميمة السياسية، وأن يضعنا نحن القراء أمام التقابل الفعلي لما عاشه. وأعترف بأنني أُكرهت، عن اقتناع، على تجاهل الكثير من المرويات المغرية للصحافي بصرف النظر عن أهميتها من وجهة نظري؛ لأنها، في رأيه، غير أساسية وتعطل جوهر الأشياء. لم يضع نفسه ضد أي أحد من الذين سبقوه في الكلام، ولم يسع إلى تقديم «بيان حقيقة» حول ما رووه أو قالوه أو كتبوه. وهذا ما سميناه «خفوت الصوت الشخصي» الذي يحضر كقيمة أخلاقية تعمل ضد إغراء الإظهار والاستعراض والفرجة.
إن «خفوت الصوت الشخصي» هو الحد الفاصل بين «الشهادة التاريخية» التي تنهض على بلاغة الإقناع، وبين الذاكرة الشطارية التي تتأسس على بلاغة الإدهاش وإثارة الإعجاب؛ أما نحن، فحسبنا أن نقول إن هذا الكتاب مقنع بحقائقه، ومثير للإعجاب بسلاسته وتراتب أفكاره..


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 10/06/2022