عندما يسلم الإنسان الروح لبارئها ويسجى جسده تحت التراب، تظل هناك ذاكرة حية حاضرة لمن عايشه للتعبير والحديث عما خلفه وراءه من سردية حياة، يجري من خلالها استحضار ما اجتمعت في الراحل من مناقب وخصال، وما خلفه من بصمات قد تكون على رمل شاطئ تُمحى أو محفورة على صخر تظل راسخة صامدة دون زوال.
الراحل الماثل أمامنا إنه الرمز رجل الوفاء مولاي المهدي العلوي، رجل سياسي ومناضل يساري ودبلوماسي وطني غيور بامتياز، الذي أسلم الروح إلى بارئها يوم أمس الثلاثاء 3 يونيو 2025، فما عساني وأنا الذي عايشته لأكثر من عشرين سنة، أن أكتب عن هذه القامة الوطنية، الذي أُودعه بعين دامعة وحسرة في القلب وبأسى وحزن عميقين، بعدما غادرنا في رحلة ذهاب أبدية.
ربطتني بالراحل علاقة فريدة ومتميزة تعود لأوائل شهر غشت 2001 بالعاصمة الأردنية عَمان، لما كان سفيرا لجلالة الملك هناك، كانت علاقة عمل ونشاط دبلوماسي مكثف، بصفتي نائبا للسفير، تحولت إلى صداقة وإخاء وتواصل عائلي متين، ظلت مستمرة لم يبددها الزمن ولا الافتراق المهني ولا البعد الجغرافي، بل استمرت العلاقة بيننا مفعمة بالمودة والإخلاص والمحبة والتنوع والتجدد، مما كان يمدها بكل مقومات الحياة والاستمرارية الحافلة بمشاغل متعددة منها المرتبط بالمهنة وبقضايا الوطنبين الماضي والحاضر.
أحمد الله عزل وجل أن أتاح لي فرصة ملاقاة هذه الشخصية الوطنية السياسية من العيار الثقيل. فهو أحد رجالات المقاومة والكفاح الوطني والنضال من أجل المغرب قبل وبعد الاستقلال. وجدت في مولاي المهدي العلوي شخصية متعددة المشارب عاش للوطن ولأبناء هذا الوطن، وللمبادئ التي آمن بها وناضل وكافح من أجلها:» من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا» صدق الله العظيم.
حظي الفقيد مولاي المهدي بمسار سياسي نموذجي قويم، متميز بالعطاء الاستثنائي، ساهم بعزيمة في التأسيس رفقة القيادات البارزة للحركة الوطنية لممارسة سياسية حزبية بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية 1959، قائمة على مبادئ تحررية، تبنت نهجا يستجيب مبكرا للأفكار الديمقراطية والعدالة والحرية وحقوق الإنسان والتنمية والتقدم في سبيل إرساء قواعد الدولة المغربية المعاصرة.
ما كان يشدني كثيرا بل ويثيرني في شخص الفقيد أنَّما كان يؤمن به من مبادئ وأفكار سياسية نبيلة كالديمقراطية وحرية الرأي والتعبير والانفتاح وتبادل الرأي والمشورة، لم تكن تقتصر على خطاباته السياسية كشعارات ونداءات جماهيرية، بل كانت تمثل لديه ثوابت ممارسة يومية حتى في داخل بيته مع أفراد أسرته: زوجته السيدة رجاء وأبنائه يوسف وإبراهيم والحبيب؛ كنت ألمس ذلك وبإعجاب شديد. وهي نفس الممارسة التي كنت أجدها لدية في العمل بالسفارة، حيث كانت المبادرة متاحة والمجال متاحا من جانبه لنا كدبلوماسيين للاشتغال والاجتهاد، والعطاء والتحرك والتشارك وتبادل الرأي في كل القضايا خدمة لمصالح المغرب وأفراد الجالية المغربية.
كان منفتحا على كل الأفكار والآراء يتمتع بنزاهة فكرية ورصيد ثقافي عال وحدس سياسي لرجل دولة، ذو طبع هادئ متزن واثق من نفسه يحسن الاستماع والإنصات، ويفسح المجال للرأي والرأي الآخر، في انتظار أن يقول كلمته. فكان يدهشني بتصرفه وبهذا التواضع المثالي، لا يعرف الحقد أو الضغينة ولا يكره أحدا، كان يقول لي دوما إن الاختلاف ميزة في الحياة وأن التنوع في الرأي قيمة مضافة، فكان يجسد بذلك القيم العليا لتربية سياسية وطنية ديمقراطية. تمثلت لديه قدرة فائقة وشجاعة على تخطي الصعاب التي أحاطت به. كان لا يحب التستر وراء الكلمات والعبارات الفضفاضة، بل كان يتمتع بجرأة المصارحة النابعة من إيمان يقوم على الصدق والنزاهة.
لقد شجعتني الشخصية الفذة المنفتحة للراحل مولاي المهدي على أن أقتحم معه، ونحن بالعاصمة الأردنية سنة 2002، على هامش عملنا الدبلوماسي، تاريخه النضالي ومعه تاريخ المغرب، انطلاقا من أسئلة صغيرة تحولت إلى ملفات وقضايا كبرى مرتبطة بدواليب الحكم وشخصيات سياسية نافذة في السلطة والمعارضة، وتاريخ حافل بأحداث كبرى رسمت ماضي المغرب القريب، الخارج من حقبة استعمارية والمتطلع إلى مستقبل واعد.
كنت تواقا إلى معرفة كل شيء عن رجل ساهم في كتابة جزء من تاريخ وطنه.انطلقتْ يوميات البَوْح دون تردد من جانبه، بل كان متواضعا منفتحا مسهبا في الحديث، بشكل مثير للإعجاب مما زادني حماسا. لم يكن وقتها القصد تدوين أو تسجيل ما يرويه في سرديته، بل كانت المبادرة حب معرفة واستطلاع ليس أكثر. إلى حين أن كتب الله لهذه الفكرة أن تتجسد في مشروع حقيقي ابتداء من سنة 2019، وانتهت بإعداد كتابه: «مولاي المهدي العلوي أحداث ومواقف»، الذي رأى النور سنة 2021.
كان كتابه هذا عملا من أعمال الوعي بالذات وتجربة سياسية أراد تقاسمها مع الأجيال الصاعدة، تحدث فيه بأعلى صوت عن ممارسة العمل السياسي والوطني الحزبي، وعن نشأته في مدرسة الحركة الوطنية التي تربى فيها ونهل من معينها مبادئ الشرف والتضامن والإخلاص والتضحية من أجل الوطن والحزب، كما استعرض نشاطه الدبلوماسي، دفاعا عن القضية الوطنية كمندوب دائم للمغرب بالأمم المتحدة بنيويو ك، وكسفير لجلالة الملك بكل من مملكة هولندا والمملكة الأردنية الهاشمية. كما تناول في مؤلفه مساره كمستشار دبلوماسي بوكالة بيت مال القدس، وانشغالاته بالقضية الفلسطينية دفاعا عن حقوق الشعب الفلسطيني.
لن يموت فينا مولاي المهدي، سيظل حيا في القلب والذاكرة، ستبقى مناقبه وأفكاره وعطاءاته وسمات شخصيته المتفردة بين أهله وأحبابه وأصدقائه ومجتمعه ساطعة حاضرة في قلب المعترك، راسخة في نفوس كل من عايشه سواء في الحياة العائلية أو السياسية الحزبية النضالية أو المعترك الدبلوماسي…ذلك هو عزاؤنا فيك أيها الفقيد الشهم.
لطالما آمنت أن الموت حاضر والفراق مؤلم، ولابد من تحية وداع عند النهاية الحتمية، يؤلمني فراقك لا شيء يعزيني فيك الآن، لكنني أشعر أن الله قد يتيح لنا حسب مشيئته موعدا في الجنة في ذلك اليوم الموعود فكلنا على سنة الله ورسوله. إنا لله وإنا إليه راجعون.
(*)دبلوماسي سابق