إهداء
إلى مايا، صولال، ونوح :
أَبدًا، لاتَنْسُوا أَنْ تَظَلُّوا
بأعْيُنٍ مُتَطَلِّعةٍ، و أيَادٍ مَمْدُودَةٍ.
مقدمة
لَوْ كانَ بحوزةِ راكِبِي “تَيْتَانِيك” “هواتفُ ذكيةٌ / SMARTPHONES”، كَمْ كانَ سَيَبْلُغ عَدَدُ الَّذين سينْساقُونَ وراءَ إغْرَاءِ الْتِقاطِ سيلفيّ، رُفْقَةَ الأوركستر البُطوليّ، الَّذي ظلَّ يُواصلُ العزفَ حتَّى لحظةِ الغَرَقِ؟
أضاءتْ محاضرةُ النَّاشِطِ الأمريكيّ، في مجالِ الأنترنيت، “Eli Pariser”، والَّتي ألْقاها، سنةَ 2011، بمؤتمَر TED (مؤسسة تكنولوجيا، وترفيه، وتصميم)، دَوْرَ “فقاعات المصافي” “Bulles De Filtres”، الَّتي تُقَوِّضُ ما يُظْهِرُه ُ”غوغل” أو “فايسبوك” من حَيادية، تُصَفِّي هذه الفقاعاتُ المُحْتَوَيَاتِ، دُونَ عِلْمِ المُستخدِمين، وعلى صعيدِ روابطِ الأخبار، تَقترحُ عليهم معلوماتٍ على المقاسِ، متلائمةً وإدراكهم واعتقادَهُم الخاصَّين، وحتى نجعل الأمر بسيطاً، نقولُ: إِنَّ مَنْ يُنَاصِرْ حَمْلَ الأسلحة النَّاريَّة، سَيَتلقَّى معلوماتٍ يُمكِنها، بالأحرى، أنْ تُعزِّز قناعَتَهُ، نفس الشيء، بالنسبة إلى الآراءِ السِّياسيَّة.
تقذِف الفقاعات بالشَّخص داخلَ عُزْلَةٍ فِكريَّةٍ وثقافيَّة، ذلك أنَّ اللُّوغاريتم ينتقي المحتويات الَّتي يرغبُ المستخدِمُ في رؤيتِها، لا تِلك الَّتي قد يَكُونُ في حاجةٍ إليها. لهذا السَّبب سيتلقَّى كل قارئٍ لهذه الأَسْطُر نتائجَ مختلفةٍ، على «غوغل»، بالنِّسبة إلى نفسِ موضوعةِ البحثِ. لقد قام «Eli Pariser”، رُفْقَةَ صَدِيقَيْنِ له، بتجربةٍ في هذا الشأْنِ على كلمةِ “مِصْرَ” / “Egypte”. أحد الصَّديقَينِ تلقَّى رَوابطَ إخباريةٍ حَوْلَ التَّظاهُراتِ الَّتي كانت، آنذاك، قَيْدَ الحدوثِ. في حين لَمْ يَتَلَقَّ الآخر، سوى توثيقٍ بسيطٍ حَوْلَ الأهرامات.
الأمر لا يتعلَّق ب “غوغل”، نفسه، لدى كل الأشخاص. وضدّاً على الْتِزَاماتِه، يَبقى “غوغل” بعيداً عن أنْ يَكُونَ محرِّكَ بحثٍ محايِدٍ.
لهذه الفُقاعاتِ فائدةً كُبرى، بالنِّسبة إلى مِنَصَّات مَوَاقِعِ التَّواصل الاجتماعيّ، ذلك أنَّها تُعَزِّزُ الإشتراكَ، بما هو العنصرُ المَرْكَزِيُّ لنموذجِها الإقتصاديّ. إنَّ دماغنا العصبيّ، بما هو كذلك، والمُثَارُ غضباً وخوفاً، يَظَلُّ أحسنَ وسيلةٍ لتعزيزِ المشاركة. من المعروف جيِّداً، حينما يتقاسمُ أشخاصٌ الرَّأْيَ نَفْسَهُ الَّذي يعتقدونه، فإنَّ وجْهَاتِ نظرِهِم تغدو مُتطرِّفةً، لهذا السَّبب، لاتَكُفُّ نظرياتُ المؤامرة، وباقي الأخبار الزَّائفة، عنِ الانتعاش داخلَ مواقِعِ التَّواصل الإجتماعيّ.
مجموعاتُ “الفايسبوك”، تُعَزِّزُ أيضاً، الإحساسَ بالإنتماء، والَّذي يبقى أكثرَ قوَّةٍ مِنَ الوقائِعِ نفسِها. يُسَطِّرُ “روجيه ماكنامي” هنا، لا مسؤوليَّةَّ “فايسبوك”، بالقيَّاسِ إلى الآثارِ الانعكاسيَّة الَّتي تَخْضَعُ لها مجموعاتِه، والَّتي تُصْبِحُ فريسةً سهلةً بالنِّسبة إلى كلِّ المناورات.
مِنَ المعروفِ اليومَ، لدى العموم، أنَّ هناك مناوراتٍ روسيَّة تَدَخَّلَت في الإنتخاباتِ الرِّئاسيَّةِ الأمريكيَّة، سنةَ 2016. لقد انتهى “فايسبوك” إلى الاعترافِ بإنفاقِ الرُّوس، ما بين يونيو 2015 وماي 2017، ما يقاربُ 100,000 دولاراً لِنَشْرِ 3000 إعلان، وقد كانتِ الإعلانات موصولةً بما يزيدُ على 400 حسابٍ زائفٍ. انْغَمَسَ الرُّوسُ في حملةِ تَشْهِيرٍ، دائمة، ضِدَّ هيلاري كلينتون، في الوقت الَّذي سَاندوا فيه المُرَشَّح ترامب.
أَحْدَثُوا أيضاً، عدداً كبيراً من المجموعاتِ الفايسبوكية، حول موضوعاتٍ ساخنةٍ (الهجرة، عُنْفُ المؤسَّسة الأمنيَّة، الِّدّين…..)، لإثارةِ الغضبِ والخوف. مجموعاتٌ فايسبوكيَّةٌ، يُطَعِّمُهَا مُجَنَّدُون، مُهِمَّتُهُم الأساسية : إشاعةُ التَّطَرُّفِ، بامتيازٍ، داخل أعضاءِ المجموعة.
المشروعُ بسيط جِدّاً، فهو يقوم على إِحداثِ الإنقسام ، وإنشاءِ تَقَاطُبٍ داخل المجتمعِ الأمريكيّ. خُطَّةٌ فَعَّالة من ثلاثِ مراحلَ : إحداثُ الإنقسام، التَّشهير بهيلاري كلينتون، ومُساندة دونالد ترامب. وبعدَ أن تجاهلَ كلِّ مسؤوليَّةٍ له، على هذا الصَّعيد، إنتهى “فايسبوك” إلى الإفصاحِ عن خضوعِ 126 مليون مستخدِمٍ لهذا التَّدَخُّلِ الرُّوسيّ. هلْ تتَخيَّلونَ أهمِّيةَ هذا الرَّقم في انتخابٍ يَتوجَّه فيه 137 مليون أمريكي إلى مراكزِ الإقتراع؟ للدِّفاع عن نفسِه، أَشْهَرَ “مارك زكربيرغ” لاَزِمَتَهُ المعتادة، الإعتذارُ والتَّعَهُّدُ بتعزيزِ حَصَانَةِ مَنْظُومَتِهِ، الَّتي يَسْهُلُ التَّحَايُلُ عليها. جديرٌ بالملاحَظة، أنَّه على الرَّغمِ مِنَ المقالاتِ السِّلبيَّة الَّتي شَوَّهَتْ صورتَها، فإنَّ هذه المقاولة الكاليفورنية، لازالت تُواصِلُ ازدهارَها. حتَّى وَإِنْ أَدْرَكَ الجمهورُ العريضُ الجوانبَ السِّلبية للأداة، فلا شيءَ، على ما يبدو، يُمْكِنُهُ أنْ يُفْسِدَ لذَّةَ الإستخدام.
قضية التدخل الروسي هاته، هيأت الأرضية لأكبر فضيحة سيعرفها فايسبوك. إنها تلك الخاصة ب”كامبريدج أنالتيكا”.