يا غيمة قالت في حُبْلِهَا :
(لا لكاتم الصوت)
هجا، فما نجا …
(الفن هو طفل النبذ والمعاناة، وأنا أرسم كما كان يكتب الاخرون سيرهم الذاتية) بيكاسو
ناجي العليُّ لقد نجوت بقدرة
من عارنا وعلوت للعلياء
اِصْعَد فموطنك السَّماء وخلينا إلى الأرض، إن الأرضَ للجبناء
أحمد مطر
وناجي قال:
(اللي بدو يكتب عن فلسطين … واللي بدو يرسم لفلسطين يعرف حالو ميت)
ها أنت تُجْبَرُ على المغادرة بفاجعة الفقد دون تذكرة، وجواز السفر سقط منك سهوا، ومن دون حزم عدة الرحيل. لكن بكل بساطة كنت قادرا على تأبط حدسك، واضعا القدر أمامك مُدركا، ومستبصرا لعاديات الزمان…وتلك لعمري مدعاة كي تحمل معاناة قضيتك وترتبها فنا حَلاًّ وترحالا. بمشاهدها القاتمة المبعثرة، وتيهها المستهدف بمقاصل الشرود…لأنك كنت تدرك أنك مُغادِرٌ لا محالة …
فما معنى أن تكون مبدع رسم كاريكاتيري حقيقي بدماء فلسطينية. فتلك هوية كي ترفع شارة الشرف العظيم. أو بمعنى آخر، أنك تملك أفنان أصابع من تبر تُغْمَسُ في روح الكرامة، ولها القُدرة على كتابة سيرة شعب.
وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم
وناجي الذي لم ينجو هل نجا …؟
بقميصه احتمى وعلى جسر الضباب قضى نحبه
مروضا كان يقتنص الأفكار، ويضيئُ حياكتَها كي تبعث وتنبث لتصل الوصل بالوصال. مَشاءٌ بالألم والأمل، وسط الصُّخور والرمضاء والمطبات والحواجز وإكراهات الهُنا والهُناك، ومن الحصافة أن يحاول اكتشاف العالم، وهو يتأبط جل أطياف العشق الحقيقي للأرض والوطن. مادام الإيمان بالأرض هو ذاك الارتباط بالتربة والشجرة والشمس والقمر والحي والناس، والثرى هو الذاكرة والتاريخ والدم والمجد والحضارة، وحركة الامتداد والتواصل بين الحاضر والمستقبل مع عناق الموروث. إنها حالة تبشير بقدسية. وجزء يشكل هوية، ورمز لا يتجزأ عن سيرورة علامات أفكار ومبادئ، إنه الوعي الشامل والخاص بالشعب الفلسطيني …
هو ناجي العارف بمدارك ما خفي عنا، والقابض لوحده بأَمارات وجماليات متونه، المنتبه جدا الى صمته: والناطق الصارخ الغاضب، المنتبه المنبه في سكونه، والسامع إلى نبضه، حد الألق …
ولكي تَدْلُفَ مراتع مدن الكاريكاتير لقراءة ناجي، عليك أن تتلحف بالضوء، وتتحمل المرارة الحانقة والإحساس بالألم والغصة والعذاب …
وهو الرافض للرتب والدرجات والمراتب، المتيم بالحياة والحرية،» فالإنسان محكوم عليه بالحرية. وإذا رفض الظلم والقهر، صار لذات رفضه فعل حر …»سارتر.
جل ذراته كانت غير ساكنة، بل كانت ناطقة وصارخة، تنضح حبا. وتتنفس أوكسجين فلسطين. يحمل شقاء شغفه في سويداء قلبه ويبوح به علنا، غير مكترث بمن يتظاهرون في حبهم أو يوهمون الآخرين بطموحاتهم من أجل الحقائب أو جيوب السترات. فمن الحقائب ما هو زائل ومندثر، لأن عوامل التعرية العاتية يتلاشى أمامها كل ما هو زائف، أو براق ويتبعثر كل تصنع. فالحب الحقيقي شعور. ورفض المحبة رفض للحياة …
كان شفافا وكاشفا وكشافا، أنيقا يُطَرِّز لوحاته على قدر أهله بأعراف القضية وتحولاتها، دون إسفاف، لم يبرحها ولم تبرحه، كأنهما روحان في جسد. هي ديدنه، والهواء الذي يستنشقه. عارف بأسرارها ووحداتها وتلويناتها، فجعل الشخوص الحاضرة والممثلة للمشهد، تكتب مذكراتها اليومية ملتقطا الأحداث، وهي تحكيها للحضور من خلال تصوراته ورؤاه …
وكفنان أصيل لا يبدأ من فراغ، بل يحمل صندوقه وما حوت جُعْبَتَه ويفتحه بتؤدة، مادا يده ليخرج الألوان المختلفة، من أفكار وموضوعات يؤمن بها، وينشغل بها ويتبناها كي يتخذ منها ما يشاء، كان يبذل قصارى جهوده المضنية، محاولا بشتى الطرق وضع رجله على الطريق ثم يمضي قدما مؤسسا أسلوبه الخاص وتوقيعه الفريد …
وقد حقق باستمرار ما كان يصبو إليه لأنه كاريكاتيري حقيقي، فغدا به الأمر خالقا أطياف فيء تعانق حنظلة، ومحققا إرهاصاته التي ظل يكررها: لا لكاتم الصوت.
آثــــــــــــــــــــر اللون الأسود على الأبيض حد النهاية، وتدثر به. حلاجا كان في مأساته، وابن مقفع في مراتب السلخ بالصمت، وتوحيديا في معاناته وهو يعانق الشقاء والضنك والتعاسة والشظف والشتات، يخوض بين الألم والاجتثاث، مأساة الظلم والطغيان من علان وعلان والاخوان والخلان والسهران والجيران …
وظُلم ذوي القُرب أشد مضاضةً
على المرء من وقع الحُسام المُهند
لتبقى مأساة الدم النازف سرمدية لا تتوقف. لتتحول مدادا لكتابة، ورسم ملاحم وبطولات شعب يعشق الشهادة.ناجي علامة مطرزة لوطن يُعشق بجنون حد الموت وبإصرار من أجل الخلود …….
كان يحمل هذا الحب غير مكترث، وكأنه يكرر مقولة فان كوخ: «لا فائدة …لن تنتهي التعاسة أبدا من العالم»
أما هنري برجسون يذهب إلى « أننا نضحك من بعض العيوب ونحن نعرف تمام المعرفة أنها عيوب خطيرة «
كل الأشياء بآثارها تعرف
«من ير الجمر حولي يَقُلْ عاشق في بقايا» إلياس لحود
حنظلة الأيقونة المحورية الحاضرة الشاهدة والمشهود لها وبها في الرسم الكاريكاتيري الفلسطيني. العلامة المُؤشِرَة على المعاناة و المكابدات، لم تسقط يوما من جدار ناجي، بل كانت تطرز الحضور في مخيال المتلقي، حتى لا يغيب عن المشهد البصري ما دام «الخيال تكثيفا للواقع وتحويلا إلى
خلاصة مركزة « أو كما يذهب باشلار إذ يعتبر الخيال هو القدرة على خلق صورة تتعدى الواقع وتتغنى به.
فمن المألوف جدا أن الخطاب البصري في حضرة الأعمال الكاريكاتيرية عند ناجي ذو ميزة وفرادة، غايتها تتمثل في أن المتلقي يمسك بتلابيبها، فهو يدركها من خلال مرجعياتها، وبنياتها، كونها ذات سند لعلامات جمالية تشي بالجديد والمغاير والمختلف والمألوف، وخطابها حميمي متعارف عليه حيث غدا متداولا. لذاك الطفل الغاضب، الرافض الساخط، الذي لا يكبر. يحملنا وصولاته متفردا، ويؤشر عليها حَنظلةَ الشامخُ بدلالاته الحاضرة ورمزيته الصارخة أمام قسوة العالم، وهو الذي أدار ظهره منصرفا، حافيَ القدمين، رث الملابس. عنوانا لتراجيديا الواقع الفلسطيني، وهو الطفل الواعي المدرك لأوجاع الناس، وكأنه شخصية أسطورية قادمة من هناك …. معانقا كاريكاتير caricare ككلمة بمعني يبالغ، أو يحمَّل مالا يطيق. وحنظلة كان حمالا ما لا يطيقه الاخرون، وهو الطفل الذي أدرك أبعد ما قد يُدرك، مستبصرا، عارفا وشاهدا وحارسا للذاكرة. مثخنا بجروحه، واقفا على أحداث هموم وطنه وعلى مرارة المشهد؛ من اغتصاب للأرض واجتثاث، وتلاوين النكبات التي لا تتوقف. وهو المنتمي بالانتساب بوثيقة الميلاد لأمة النكبة. يدون هموم الأهل ويحمل فقد الوطن، إنه الاستثناء والخلق المتجدد والمستمر المتواصل …
حنظلة هو رسم عن الذات والتعبير بها، والكشف عنها، ورسم الذات هي ممارسة عند ناجي لا تبحث عن لحظة فرح أو استدرار للضحك، بل هي نوع من الكتابة عن واقع مرير لقضية ملتبسة. فهو المؤلف والقارئ، والوسيط. حكاء بامتياز يوزع محكياته ويرويها للعقول الصاغية، والعيون البصيرة التي تُدرك البصيرة، فترتوي…
حنظلة «هو الطفل الفلسطيني واسع القلب، ضيق المكان « سريع الصراخ وطافح بالطعنات، وفي ضمته تحولات المخيم «
لا يُعشق كحالة، او متنفس بحث عن الضحك أو استراحة من كدر اليومي المثخن بالهزات، لأنه لا يعرف ذلك، حنظلة متن مفتوح لتذكر الهموم الفلسطينية والحقائق التاريخية. حنظلة نص مُشرَّع سهل القبض، عصي الادراك، خرج من خيمة آيلة للسقوط وهو يشير الى الوطن. هو المشاطر والملتزم والمتعاون حد التورط، هو الطفل الجسور الذي:
يقدم وردة لبيروت. ويعانق خريطة فلسطين.
يسند جريحا في مجزرة صبرا وشاتيلا. ويرفع شارة نصر ضد رموز الشر.
يترحم على الشهداء، يشل مدفعا للعدو من اخراج قنبلة.
يمد حجرا للأطفال أثناء انتفاضة الحجارة. ويحمل سيفا وريشة معلنا للجميع أن ما أخذ بالقوة لا يرد إلا بالقوة.
حاضرٌ لا يغيب، وغائبٌ حاضر.
هو الفلسطيني المتهم حتى تثبت إدانته، هو الرمز والدلالة والأيقونة.
لم يهادن يوما، بل دافع عن هويته بكل ما يملك. وكأن فلسطين خلق لها وخلقت له، وتلك أقصى درجات التماهي في الحب.
مشرد ومطرود، مهاجر ومبعد. نازح وبسيط، لا يعرف كسب لقمته الا بعرق الأمل.
فاقد لأرضه ويتعرض للمهانة والقهر. وفي المقابل هناك كلفة الاستشهاد،
فلم الخوف من الموت مادامت فلسطين في القلب !.
*شاعر وتشكيلي
(حروفي) من المغرب