«نازلة دار الأكابر» فسيفساء بديعة لرواية مغاربية جديدة

05

بدأت رواية المغرب العربي تشغل حيزا ما فتئ يكبر وينمو في الكم العام للرواية العربية، وإن لا يضاهي ما يتم كتابته وطبعه في المشارق العربية ذات السبق التاريخي في إبداع فن القصة بطرازها التخييلي الحديث.
شرع أدباؤنا في كتابة الرواية – لنقل القصة الطويلة ـ وبالعربية تحديدا حسب مقتضياتها التجنيسية مع حقبة الستينات، بينما كانت ناضجة بنصها الفرنسي عند إدريس الشرايبي ومحمد ديب، مثلا. لذلك تاريخ الرواية العربية المغاربية لا يتجاوز عمليا بمعيار فني نصف قرن، وهي فترة محدود بالنسبة لتاريخ اقتراح وإنجاز أي جنس أدبي والبلوغ به مرتبة التحقق واكتساب الخصائص النوعية المؤهلة له. رغم هذا وبالنظر لحصاد الببليوغرافيا المتوفرة، فإن المكتبة الأدبية المغاربية تغتني الآن بكم لا يستهان به من المجاميع القصصية، إذ القصة القصيرة سباقة ، والروايات لاحقة. ورغم أن الدارس سيتحفظ على كثير منها نسبُها ضعيف ونصيبها من الفن هزيل، وفهم كتابها للواقعية التي هي المدماك ضحل ومباشر جدا، لا أدبي، إلا أن نصوصا أخرى وفي وقت وجيز أبانت عن طموح وجرأة على تجاوز النقائص لرسم النسق الفني، وسرعان ما نزعت نحو أفق التجديد للشكل الكلاسيكي وتفكيك بنيانه بتجريبية تعيد إنتاج وتخييل الواقع من منظور فوق واقعي والإبحار فيه برؤية ذاتية، ثم بثالثة تركيبية. هذا في مسار تجديد متصل على قاعدة بناء متصاعد، يتبلور فيه أولا مجتمع الرواية، أي ما يصلح داخل البنيات الاجتماعية والاقتصادية والطبقية والثقافية أن يتحول إلى مادة روائية بمحكيات وشخصيات ومصائر وحبكات؛ وثانيا، الأشكال الملائمة في كل مرة للتمثيل والتعبير والرسم والتعبير عن خطابات معينة. عمد دارسون إلى رصد هذه التكوينات تاريخيا وكرونولوجيا وظاهراتيا أيضا بحسب ما تقتضيه البدايات، وبالوسع الشروع في القيام إما بأعمال مونوغرافية أو بدراسات تتجاوز هذه المرحلة تركز على طبيعة ومحتوى ونوع التخلق الأجناسي، بتساوق مع مجمل التحولات النوعية والرؤيوية للرواية في المغرب العربي ضمن متن الرواية العربية وأكبر منها الرواية الحديثة في العالم التي لم تعد بتاتا معنية بقضايا الشكل لأنها هي صانعته، ومسكونة بهموم أخرى. أما نحن، وهذا اقتناعي، فروايتنا لا تزال فتية، ومن نص لآخر تتغير، أي لم تستقر فيها المشاريع الكبرى أو هي بصدد التشكل والتبنين، هذا ما يجعل الحديث(النقدي) عن التجديد والتجريب، وأكثر شططا مزعم التجاوز في بعض الإصدارات الوليدة ـ أصحابها لا يحبون أن يسمون ناشئين، كأنهم فوق الطبيعة وقوانين الفصول، لا عجب تراهم يخلطون ويرقعون الأمشاج أكثر مما يؤلفون روايات ـ؛ نقول يستدعي المراجعة وإعادة بناء خطابه بثقافة نقدية ووعي مختلفين. وأول ملاحظة فيه أن الرواية العربية الحديثة ضمنها الإسهام المغاربي تتعايش وتتماس فيها أشكال ورؤى وخطابات مختلفة بين شد وجذب حسب إيقاع مجتمعاتنا وثقافاتنا نفسها، وما يعنيني ناقدا هو مقدرة كل رواية على نقل التجربة بفنية لائقة وهذه لا مماحكة فيها، وبمعرفة بما هو روائي، وأحيانا تجد الرواية الرهان التي تنجز التركيب والتعدد والصهر للتجارب في لحمة واحدة بصناعة الفنان، وهذا مكسب حقا.

* * *
يمكننا من البداية أن نَعُدّ هذه الرواية ( نازلة دار الأكابر، لكاتبتها أميرة غنيم، دار مسكلياني، 2020، تونس) والتي تنافست بقوة مع خمس أخرى في القائمة القصيرة لجائزة البوكر للرواية العربية، أثراً معتبَرا في إطار الأدب السردي التونسي، أولا، والعربي، عامة، تقويم أقرب إلى التقدير ليس لما ننوه به عادة من تطوير وتجديد في النصوص حديثة الصدور وبأقلام محدثين، وإنما، يا للمفارقة، لرواية تقليدية، وهي صفة تعني بإيجاز اكتسابها الخصائص الكلاسيكية لرواية القرن التاسع عشر في السرد والحبك ورسم الشخصية، وامتصاصها أخرى تدريجيا وهي تنمو سمات تتنوع فتبدو كالجديدة في إطار القديم ضمن هيكل تاريخي محدد زمنيا وثقافيا. على أن فحوى الكلاسيكية هنا أساسا انتساب هذا العمل إلى واقعية تاريخية وتسجيلية برؤية اجتماعية وثقافية مولّدة من قلب حقبة بصورتها الشمولية وبؤرة الصراع فيها بين جمود وجديد، منتصراً لرسالة التجديد والسيادة والتغيير في قلبه انتزاع حقوق المرأة بالصوت الجهير العالي.
تحكي رواية أميرة غنيم قصة طويلة( بحجم 460 صفحة) عن عائلتين ذاتَيْ محتِدٍ عريق في تونس العاصمة، لكل منهما عقلية ومنهج حياة في فضاء اجتماعي وحضري واحد، مطبوع بتقاليد راسخة، ومميز بسعة العيش وتبني قيم متضاربة بين انغلاق وتفتح، ذكورية أبوية ورغبة انعتاق. عائلة عثمان النيفر، وعائلة علي الرّصّاع بالأمهات والبنين والبنات والخادمات. أحسنت غنيم صُنعاً برسم شجرة أنسابهما في العتبة لتهدي القارئ نظرا لتعدّد الشخصيات والمحكيات والأحداث، واشتباك الأدوار والمرويات، وكذا التقاطعات بين العائلي والخارجي. وباختصار شديد، تنهض قصة الرواية على مصاهرة العائلتين، بزواج محسن النيفر من زبيدة الرصّاع، وانتقالها إلى بيت الزوجية، إلى بيت الحاج عثمان، وهو دار الأكابر، حيث يعيش جميع أفراد العائلة على غرار العائلات التقليدية في الماضي في الحواضر ضمن تكوين الأسرة النووية، وبالمصاهرة وعلاقات طارئة تصبح أسرة ممتدة متسعة بتكاثر الأصهار والأبناء وبالحيوات التي يعيشها كل فرد ذهابا وإيابا بين مركزه ومحيطه، لذلك تتعدد الفضاءات وتتضام قطعُها الكثيرة في تكوين فسيفساء كبرى لرواية أرادت أن تغرس الوتد وتنشر الخيمة الواسعة.
الوتد أو العماد الذي صنع حبكة الرواية من بدايتها إلى النهاية، بعد منعرجات وتقلبات واستقصاءات شتى، هو حدوث (النازلة) التي ستهزّ أركان البيت هزّاً، وتنقل حياته النثرية الرتيبة إلى بؤرة الشك والتوتر الدرامي السيكولوجي والجسدي والقِيَمي ليعيش حياة الصراع الجديرة بالرواية. النازلة، لغةً، حسب مختار الصحاح، ( الشّديدة من شدائد الدهر تَنزِل بالناس). وهي التي حلت بدار الأكابر حين طرق بابها رسول يحمل حزمة أرغفة ضمنها ورقة عبارة عن رسالة موجهة إلى المصون زبيدة من شخص يدعى الطاهر، وبالصدفة يصطدم بالخادمة حاملة الحزمة أخو الزوج محمد تقع يده على الورقة ويقرأها فيجنّ جنونه ويندلع أوار الفضيحة. كيف؟ يصرخ وتجتمع العائلة الأب والأم جنينة والزوجة زبيدة والخادمتان لويزة وخدوج، وتصبح الزوجة المُحْصَنة محط ّاتهام بالخيانة ويتطور الموقف إلى أحداث نتعرف عليها تباعا. ستتصدع دار الأكابر شيئا فشيئا بشقاق عنيف بين امحمد المحافظ الغيور على سمعة العائلة وأخيه الزوج المتفتح محسن؛ وبين الأب والأم ركنَيْ الدار الكبيرين والزوجة، وبينهما وصهرهما علي الرصّاع في قطيعة تدوم سنوات؛ وكذلك مع زبيدة صممت البقاء رغم ما لحقها من أذى في بيت الزوجية. سيصبح محتوى الورقة الرسالة الغامضة هو السر المكنون الذي لم يطلع عليه في البداية إلا الأخ الموتور والأب كبير الدار، قرآ وحدهما الوريقة وأوّلاها وحدهما بحكم توقيع تحمله باسم( الطاهر) واستنتجا خيانة زوجية وإساءة بالغة لشرف العائلة، تاركين الزوج المسكين في حيرة، وزوجته في حسرة، وعائلتها في غيظ ومرارة، يُغذّي الشائعة وجود طاهر حقيقي هو(الطاهر الحداد) مدرس من الزيتونة اختاره الرصاع لبناته كي يسد نقصهن في العربية هنّ المتعلمات في المدرسة الفرنسية، منهن زبيدة بالذات تعلق بها حتى جرؤ وهو شبه معدم على طلب يدها من أبيها فرده خائبا ليكتوي بعد ذلك بضرام الحب.
تصبح الرسالة لغزا مسوّغا لاستدامة خيط الحكي عشرات الصفحات، وعنصر تشويق للقارئ بحثاً عن سرها من وراء الفاعلين الأساسيين أقرب إلى حبكة بوليسية، ويتصل الاستقصاء عن خيوط ولغز العقدة الغرامية من الآباء إلى الأبناء فالأحفاد، إذ نعلم أننا مع قصة أجيال تبدأ من الثلاثينات وتتاخم العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين، إلى غداة الربيع العربي التونسي. لذلك حشدت غنيم عشرات المحكيات والقصص الفرعية لتصنع رواية هرمية متعددة الطبقات، متنوعة المصائر ومشارب الشخصيات، بطموحها ونزوعاتها وأسرارها الدفينة وحياتها المزدوجة المنحرفة قياسا بالأخلاق العامة، امحمد ومحسن نقيضان ومتناقضان في دار الأكابر المحافظة؛ وزبيدة من تزوجت قهراً وقضت عمرها كظيمة مسلوبة المشاعر مغتصبة الحواس مشلولة في النهاية، بينما يلقى حبيبها الطاهر نهاية محزنة إذ يوم يلقى حتفه تبدأ مأساتها.
عمدت أميرة غنيم إلى تحويل شخصية شيخ ومصلح اجتماعي وأحد أعلام التنوير المناضل النقابي، من انبرى للدفاع عن حقوق المرأة وتغيير مدونة الأحوال الشخصية، الطاهر الحداد ( 1899ـ 1935)) صاحب الكتاب الشهير:» امرأتنا في الشريعة والمجتمع»(1930) الذي جرّ عليه مع مقالات أخرى الويلات، تعرض للتكفير والملاحقة وقطع الرزق ومات معدما مُضاما؛ إلى تحويلها لشخصية روائية وأسبلت عليها استنادا إلى وقائع ووثائق تاريخية لبوس التخييل، فصارت تنوس بين الحقيقة والخيال، والمهم أنها خدمت صنعة الرواية ومدماكها، وشخّصت مع زبيدة الثنائي الغرامي الممنوع في المجتمع المحافظ، فيما يخوض سدنته شذوذهم ونزواتهم في الخفاء( كما سيطلع عليه القارئ بتعرية فاضحة)؛ مثلت شخصية الطاهر الحداد الوجه الأبرز في السجل التاريخي المفتوح والمقروء في» نازلة دار الأكابر» تستعرض بكيفية متوازية تارة، ومتقاطعة مع مسارات الشخصيات ومتناسلة استطراداً غالبا منها، تارة أخرى، صفحات ناصعة من تاريخ العمل السياسي والصراع الفكري العقيدي والوطني لتونس الحديثة، في حقبة الثلاثينات من القرن الماضي بوجه خاص؛
تمعن الكاتبة في استعراض كثير من الوجوه والأحداث والأخبار السياسية، وإضاءات من كل نوع في الجغرافيا التاريخية السياسية والاجتماعية لتونس في الفترة المعنية، تفعل هذا بإسهاب واستطراد يفصلنا عن سياق الرواية ويجعل من هذه نوعا من الأطروحة، هي في الحقيقة أطروحات عن: مشروع الاستنارة، ونشوء الأحزاب الوطنية والتنظيمات النقابية وصراعاتها، والكفاح ضد الاستعمار، وحقوق المرأة، والتعليم، والتربية، والعنصرية، والتفاوت التاريخي، والسلطة الدينية والصراع بين المحافظة والتجديد، ونزعة المثلية، والدعارة، وفكرة التعايش العرقي، َوصولا إلى البورقيبية وفتوحاتها وخيباتها أيضا؛ تشكل مجتمعة سردية تاريخية وخطابا حجاجيا عن مسار وتحولات بلد جعلت الرواية رداءً له ووشاحا.
لذلك، فإن» نازلة دار الأكابر» تقع في المنزلة بين المنزلتين في كونها رواية عائلية اجتماعية وتاريخية، متعددة المنازع والمحافل والشواغل والخطابات، تربط بينها جسور ومسالك وتلتقي كما تفترق حول سر الورقة اللغز، الذاتي والاجتماعي والتاريخي والطقوسي(هذا وحده مبحث مفرد من الناحية الأنتربولوجية يخص المأكل والملبس والعادات والمعتقدات، الخ) لذلك فإن الشخصيات وهي متعارضةٌ شكلا، متماهيةٌ جوهراً ، مرايا متقابلة تعكس وتكمل بعضها البعض طريقة لتوفير تعدد الأصوات، والتخفيف من النمطية، وكسر رتابة السرد بوضع مزيد الحَبّ في رحاه، لكن هذا الجهد الفني البنائي وغنى التوثيق وغزارة المعلومة، والتنقل بين ضمير المخاطب غالبا والنجوى أحيانا، وحذق التركيب المحكم، وقد منح هذه الرواية تمثيلا واقعيا كلاسيكيا ومنوعا أيضا، أعني مؤسِّساً لروائية أصيلة مطلوبة غدت تلتمس في الرواية العربية، اليوم؛ مع هذا كله أعوَزَها لغة تناسب وقول ينسجم، وتعبير يلائم الشخصية والموقف. تستخدم كاتبتها لغة واحدة فصيحة وبليغة جزلة اللفظ، دقيقة العبارة، متينة المبنى، مستقاة من المتون المحفوظة، أسلوبها يليق بإنشاء الثلاثينات وفصحاء الزيتونة والصادقية و.. ولكنه لا يستوي على لسان الخدم والعوام/» البلْدية» أهل الحضر وساكنة الريف سواء بسواء. وكما أن للرواية بناءها ومقتضياتها الفنية، فلها لغتها وبلاغتها المناسبة لجنسها، وهذا ما افتقرت إليه أيضا رواية الجزائري عبد الوهاب عيساوي « الديوان الإسبرطي» الفائزة ببوكر العام الماضي، جاءت واحدة، محبّرة بلغة عصرها لا روائيتها، لو كان تملّك هذه الأداة لبلغ أبعد في القيمة، والشأن كذلك عند أميرة غنيم، جاءت روايتها على المنوال ذاته، وهي طريقة تلفت النظر بجد. لا مبالغة إذ صدّرها الباحث الأديب التونسي شكري المبخوت بتقديم وصفي قيّم مطبوع بحماس وإشادة بخصائصها، يفتح شهية القارئ، ويُلبس العمل جلبابا يُواتيه حينا وأكبر من مقاسه حينا آخر، وفي الحالتين يفتح شهيتنا لنقرأه فنقبل بلهفة على مائدة سردية حافلة أعدها صوت روائي ونسائي قوي يضمن للكتابة جماليات لائقة لا تكتفي بإحكامها بل لتقرنها برسالة ومعنى للأمل والمستقبل، وهذا من أهداف الأدب، أيضا.


بتاريخ : 18/06/2021

أخبار مرتبطة

743 عارضا يقدمون أكثر من 100 ألف كتاب و3 ملايين نسخة 56 في المائة من الإصدارات برسم 2023/2024   أكد

تحت شعار «الكتابة والزمن» افتتحت مساء الأربعاء 17 أبريل 2024، فعاليات الدورة الرابعة للمعرض المغاربي للكتاب «آداب مغاربية» الذي تنظمه

الأستاذ الدكتور يوسف تيبس من مواليد فاس. أستاذ المنطق والفلسفة المعاصرة بشعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز ورئيسا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *