يشكل انبثاق الظاهرة الغيوانيةمنذإرهاصاتها الأولى نهاية الستينات و بداية السبعينات من القرن الماضي بالحي المحمدي بالدار البيضاء على يد المجموعة الرائدة ناس الغيوان، إعلانا عن ميلاد فعل فني ثقافي مجموعاتي انتصر للهوية الشعبية المغربية وتراثها الجمعي المتعدد الروافد والانتماءات الجغرافية والتاريخية، تزامن خلال نفس الفترة مع ولادة دينامية لباقي مجموعات الظاهرة التي آمنت هي الأخرى بقدرة القول الشعبي و الألحان الناطقة بالوجدان الجمعي في عمقه التراثي على إنتاج ممارسة فنية تستطيع أن تنطق بالانتماء المغربي شكلا ومضمونا. ما جعل الفن الغيواني المجموعاتي يحتل منذ عقود من الزمن وإلى الآن مساحة أصيلة في المشهد الثقافي ببلادنا. ضمن هذا الإطار تأتي عدد من الدراسات والكتابات لباحثين ومتخصصين في الظاهرة الغيوانية لتحاول الحفر في التشكل التاريخي لهذه الأخيرة، بما تحيل عليه من سرديات يمكن مقاربتها من زوايا قرائية وبحثية متعددة. و في سياق فعاليات مهرجان الظاهرة الغيوانية المنظم في الحي المحمدي بالدار البيضاء- ساحة بشار الخيرـ من طرف مقاطعة نفس الحي في الفترة ما بين 20 و 23 غشت 2025، في دورته الرابعة تحت شعار «الظاهرة الغيوانية استمرارية وهوية» شهدت الخيمة الغيوانية التي أقيمت على هامش فعاليات هذا الحدث الفني بنفس الساحة يومه الأربعاء 20 غشت 2025 حوالي الساعة السادسة مساءً جلسة قرائية حول المنجز الفكري الموسوم ب» أصوات تشبه المغرب -ناس الغيوان» للكاتب والباحث حسن حبيبي، حيث عمل عدد الباحثين في الثقافة الشعبية و الإعلاميين المختصين في الصحافة الثقافية عبر حواريات فكرية مفتوحة تماهت إلى حد ما مع فضائية الخيمة البدوية المغربية المحتضنة للجلسة على استنطاق ما بين سطور كتاب حبيبي بشكل مكن نسبيا من إنتاج أحاديث و نقاشات ذات قيمة مضافة حول ناس الغيوان كتجربة غنائية مغربية أسست تاريخيا لفعل ثقافي جماهيري يصعب تجاوز امتداده الزمني والوجودي في وجداننا الجمعي. عموما ثلاثة محاور موضوعاتيةيبدو أنها حركت النقاش العام الذي عرفته هذه الندوة القرائية.
كتاب أصوات تشبه المغرب: بين القراءة السيميائية ورصد القيمة البحثية
نجد أن التعريف بمنجز حسن حبيبي إن على مستوى سيميائية شكل الكتاب و قيمته البحثية و التوثيقية قد احتل مساحة مهمة في أحاديث هذا اللقاء، حيث تم اعتبار أن هذا الإصدار هو حلقة متكاملة في مشروع بحثي طويل دشنه حبيبي منذ سنوات عبر كتابات أولى ذات أنفاس صحفية كان يحفر من خلالها في تشكل التجربة الغيوانية تاريخيا وفنيا وشعبيا قبل أن يصل المشروع إلى ذروة الاكتمال النسبي مع إنتاج الكتاب موضوع القراءة الذي و إن بدى أنه ينتمي إلى جنس الأبحاث المتعارف عليها في الساحة الأكاديمية، فمداد ذاكرة الكاتب كعاشق و معاصر انفعل منذ سنوات طفولته وشبابه عن قرب مع لحظة ميلاد مجموعة ناس الغيوان بالحي المحمدي ظل هو المحرك لفعل الكتابة لهذا المنجز بشكل يجعل من الصعب بالنسبة لمتلقي هذا الأخير أن يفصل بين حدود الكتابة البحثية المحايدة و الموضوعية نسبيا وبين أنفاس الكاتب وذاتيه بين سطور نفس الكتاب. (جزء من مداخلات الإعلاميين فاطمة الزهراء الإفريقي وعبد الله لوغشيت) . مع العلم هنا أن قيمة منجز حبيبي تنطق بها سيميائيا عتبة هذا الأخير، والمقصود هنا عنوانه وغلافه، على اعتبار أن الكاتب تفوق إلى حد ما في إعطاء مدلول مزاجي(بفتح الميم) واضح على مستوى الخطاب لعنوان الكتاب بعد أن قرر بكل وثوقية حسب تعبير إحدى المتدخلات أن يجعل أصوات ناس الغيوان تشبه المغرب هكذا بشكل واضح، وكأننا أمام حكم قيمة لا لبس ولا تراجع فيه، طالما أن ناس الغيوان هنا نجحت في أن تنتج فنا غنائيا وفعلا ثقافيا استطاع أن يخاطب بعمق النحن المغربية في بعدها الهوياتي الشعبي، أخذا بعين الاعتبار أن كلمة أصوات الموظفة هنا في العنوان لا تخلو من جرس صادح ميلودي على مستوى التلقي حسب نفس إشارة المتحدثة التي لم تفوت الفرصة للوقوف على سيمائية بصرية أخرى تضمنها غلاف نفس الكتاب، وهي صورة لمجموعة ناس الغيوان في بداياتها المبكرة، في لحظة غناء جماعي منح واجهة كتاب حبيبي مساحة من الحياة والبهجة وكأننا أمام صورة حية حديثة الالتقاط .(جزء من مداخلة فاطمة الإفريقي والمسرحي ادريس كسرى).
أصوات ناس الغيوان والانتصار
للهوية الشعبية
حاولت بعض المداخلات أن تناقش ضمن هذا المحور، ومن خلال كتاب حبيبي القيمة الثقافية النوعية التي أعلن عنها ميلاد ونشوء مجموعة ناس الغيوان كفرقة فنية مسرحية الأصل والتكوين راهنت على الحفر في الموروث الشعبي المغربي وفنون القول المنتشرة على امتدادربوع الجغرافيا الثقافية لبلادنا خاصة عيوط الشاوية لإنتاج فعل فني مغربي أصيل قولا ولباسا وأداء وموسيقى وأنغام جعلت المتلقي الجمعي المغربي يشعر فعلا أنه أمام موسيقى تشبهه إن لم نقل مرآة تعكس وجوديته العميقة، بعيدا عن سرديات الغناء المغربي المعاصر الذي طالما عبر في غالبيته عن روافد مشرقية في الأداء صوتا وكلمة و لحنا أكثر منه تعبير عن روح غنائيةمغربية شعبية(جزء من حديث لإدريس كسرى). وحقيقة يصعب إغفال السياق التاريخي الذي نشأت فيه ظاهرة مجموعة ناس الغيوان والذي حاول حبيبي التذكير ببعض ملامحه الكبرى في نفس الكتاب، وهو سياق عام تمازجت في تشكيله الصراعات السياسية والإيديولوجية في مغرب ما بعد الاستقلال بالخصائص السوسيو ثقافية للساكنة خلال نفس المرحلة، بشكل ولد تجاذبا داخل كل الحركة المجتمعية للمجال أفرز ولادة ناس الغيوان كفعل للمقاومة، وصوت غنائي يصدح بمعاناة المهمشين من الفئات الشعبية، ويعلن عن الحاجة إلى هوية ثقافية جامعة وناطقة بكل الهويات الموسيقية الساكنة في وجدان التربة المغربية بشكل جعل من ناس الغيوان تبدو كممارسة فنية استطاعت فلسفيا أن تربط الماضي الثقافي للمغرب بحاضره(جزء من حديث لفاطمة الإفريقي )، علما أننا نعتقد أن هذه القدرة التي أبانت عنها ناس الغيوان في القيام بهذا الدور الطلائعي الثقافي إن صح التعبير في لحظة تاريخية مهمة من تاريخ المغرب الراهن لم تكن تعني في واقع الحال، إلا بيانا عن ميلاد احتفالية غنائية مغربية تمظهرت عبر احتفاليات متمايزة أسست لها باقي مجموعات الظاهرة الغيوانية، خاصة الرائدة منها كالمشاهب وجيل جيلالةوتكدة وصولا إلى السهام ومسناوة، وهي فرق نجحت نسبيا في إنتاج ممارسة فنية متحت هي الأخرى من ثقافة التراب المغربي ووجدان الساكنة الشعبي. ويبقى الانتباه إلى أن تطور أداء ناس الغيوان الفني والغنائي بما عاشته من منعطفات ولحظات مفصلية في مسارها التاريخي، هومناسبة لتتبع نمط الإنتاج الذي عرفته المجموعة في ارتباط بسياق كل مرحلة من زمنها الفني. فبعد أن شكلت السبعينات من القرن الماضي، على ما يبدو، الزمن الذهبي في إنتاج الفرقة كلمة ولحنا وأداء فنيا صادحا بالهوية الجمعية في عمقها الشعبي، ستأتي فترة الثمانينات والتسعينات من نفس القرن لتعلن فيهاالمجموعة عن روح صوفية وجودية واضحة في أغانيها ترصد من خلالها قضايا الألم والرحيل والموت، كتراجيديا ظلت تصنع و تصوغ أسطورة ناس الغيوان (جزء من أحاديث ادريس كسرى وفاطمة الإفريقي). وحري بالذكر أن نشير هنا إلى ما قدمه حبيبي داخل كتابه من بورتريهاتمكتوبة حول الأعضاء الخمسة المؤسسين لمجموعة ناس الغيوان لم تخل من نفحة أدبية خاصة و منهجية بيداغوجية في التركيب بشكل جعلها تساهم هي الأخرى في تأكيد شبه هذه الأصوات وانتمائها للجغرافيات الثقافية الشعبية بالمغرب.( جزء من أحاديث نفس المتدخلين)
ناسالغيوانأصواتللتصالح
مع ذاكرة التهميش
يظهر من خلال ما جاء من أحاديث خلال هذا اللقاء القرائي المفتوح أن سرديات حبيبي المكتوبة عن ناس الغيوان لم تكن في واقع الأمر إلا مدخلا بالنسبة للكاتب للحديث عن مساحة من تاريخ الحي المحمدي في العقود الأولى لما بعد الاستقلال، وذلك لتوثيق جوانب مهمة من حركية مجتمعية ثقافية عرفها هذا الحي وكان لها دور في التأسيس لانبثاق تجربة ناس الغيوان كأصوات حملت على عاتقها إيصال تطلعات الساكنة الشعبية و أحلامها الجمعية في مغرب الحرية والعدالة الاجتماعية بكلمات وألحان وفعل فني مغربي الهوية والانتماء خصوصا وأن الحي المحمدي، خلال هذه الفترة من التاريخ المغربي الراهن،برز كمجال لتشكل ذاكرة الصراع الطبقي إن صح التعبير بين فضاءات اختارت ساكنتهاالحفاظ على عمقها البدوي، وأخرى بدت معبرة عن ولادة التجربة الحضرية الجديدة بنفس الحي وهي جدلية لم تكن لها إلا لتنعكس معيشيا وثقافيا واجتماعيا وسط الساكنة، لتصدح حناجر الغيوان بهذه التناقضات المجالية والهويات المتجاذبة، وتصير جسرا نحو مخاطبة المؤسسات والفاعلين عبر بوابة الوجدان والكلمة المغناة لنفض الغبار عن التهميش، وقرع أجراس المطالبة بالعدالة المجالية بعيدا عن طقوسية الخطابات الرسمية وليتحول الصدى العالمي الذي وصلته أغاني وأصوات ناس الغيوان ذاته إلى ورقةللتوظيف السياسيوي حسب ما يستنبط من مرافعات حبيبي داخل نفس الكتاب.( تفاعلا مع أحاديث الإفريقي وكسرى).
ويبقى من الأهمية بمكان تكثيف الجهود للمزيد من البحث والحفر ما أمكن في ذاكرة ظاهرة المجموعات الغيوانية، ليس فقط من أجل الإمساك الموضوعي بسرديات النشأة وسياقات التأسيس، وإنما أيضا لتمكين المتلقي المغربي وباقي المهتمين بالثقافة الشعبية وذاكرة الحي المحمدي من تشكيل خزانة بحثية لا ننسى أن أعلاماآخرين ساهموا ولايزالون بمجهودات ذاتية في تشكيلها أمثال العربي أسخور وحسن نرايس ونجيب تقي والعربي رياض عبر كتابات تعمل هي الأخرى على نقاش الظاهرة من زوايا معالجة متعددة يمتزج فيها السؤال التاريخي بالقلق الثقافي والانشغال اللساني والكتابة الأدبية والنبش في بيوغرافيا أعلام الظاهرة، مع تثمين ما جاء به البعض من ضرورة الانتباه إلى التوجهللكتابة بالصورة عبر إنتاج مواد بصرية تستطيع أن تخاطب أكبر شريحة من الجمهور والعموم، بما يخدم فعلا إشاعة المعرفة البحثية حول تراثنا وثقافتنا الشعبية في انتظار أن تتوحد باقي الجهود لتفعيل حركة تنموية حقيقية بفضاءات مثل الحي المحمدي تتصالح مع ذاكرة التهميش، وتجعل من التاريخ الوطني والنضالي والثقافي لهكذا أمكنة أرضية لفعل تنموي مستديم لصالح الساكنة بمنطق تشاركي جماعيوبحكامة تنظيمية مؤسساتية.